الحسبة وآثارها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسبة وآثارها

تبقى أمة الإسلام شامخة بين الأمم ، لما حباها الله تعالى من الخصائص والصفات ، تلك الخصائص التي لا تعرض فتشترى ، ولا توهب فتقتنى ، تلك الخصائص من العطايا الربانية ، والمنح الإلهية ، التي تفضل الله بها على أمة الإسلام ، فجعلها خير الأمم وأزكاها على الإطلاق . سبقت جميع الأمم إلى غاية سامية ، ومنزلة عالية ، ليست مقصورة على زمان معين ، أو مكان معين ، بل جعل الله عز الأمة وشرفها ، مرهوناً بوجود خصائص وصفات ، ارتضاها لها ، ووعد بالعز والتمكين لمن تمسك بها ، وإن من تلك الصفات ، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تلك الشعيرة التي جاءت بها النصوص الكثيرة المتواترة ، تلك الشعيرة التي ترفع الأمة بوجودها ، و توضع بتركها،تعز بتوافرها ، وتذل بالتخاذل عنها . إنها حصن الإسلام الحصين ، والدرع الواقي من الشرور والفتن ، والسياج من المعاصي والمحن ، إنها الوثاق المتين ، الذي تتماسك بها عرى الدين ، وتحفظ بها حرمات المسلمين . وهل تظهر أعلام الشريعة ، وتفشو أحكام الإسلام ، إلا بالأمر بالمعروف والني عن المنكر . لا تستوفى أركان الخيرية ، لهذه الأمة إلا به ، فقد حكم الله بخيرية الأمة إن كانت تلك الشعيرة من خصالها ، واتصف بها أفرادها ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ﴾ وفي المقابل أذل الله أمة من الأمم تركت تلك الشعيرة وأهملت شأنها فكان عاقبة أمرها خسراً . ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، مجاهدة دائمة ، لإبقاء أعلام الإسلام ظاهرة ، والمنكرات قصية مطمورة . إنه فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين : ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ﴾ . ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ

عباد الله : إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة ، وعرف الحلال من الحرام ، وأدرك الناس الواجب والمسنون ، والمباح والمكروه ، ونشأت الناشئة على المعروف ورضيت به ، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه . أما إذا تعطلت هذه الشعيرة ودك هذا الحصن ، وحطم هذا السياج ، فعلى معالم الإسلام السلام ، و لعمت الغفلة ، واضمحلت الديانة ، ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة ، وويل لأهل الحق من المبطلين ، وويل لأهل الصلاح من سفه الجاهلين ، ومن تطاول الفاسقين . وحينئذ يحل عذاب الله وإن عذاب الله لشديد . لا تكون ضعة المجتمع ، ولا ضياع الأمة ، إلا حين يترك للأفراد الحبل على الغارب ، يعيشون كما يشتهون ، يتجاوزون حدود الله ، ويعبثون بالأخلاق ، ويقعون في الأعراض ، وينتهكون الحرمات ، من غير وازع أو ضابط ، ومن غير رادع أو زاجر .  فتسود الفوضى ، وتستفحل الجريمة ، ويقل الوازع ، ويأمن المخالف ، أما تسمعون بكثرة الزنا ، أما يتردد على مسامعكم كثرة الإركاب ، أما تلاحظون قلة الحياء والاختلاط ، في الأسواق والمستشفيات ، و المطارات و المنتزهات ، والاستراحات والحفلات . تهاون بالحجاب ،و تمرد على الجلباب ،وخروج على القيم ، وتهاون بالأخلاق

عباد الله : إن كثرة رؤية المنكرات ، يسلب القلب نور التمييز ، وقوة الإنكار . لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها ، وتكرر في العين شهودها ، ذهبت من القلوب وحشتها ، فتعتادها النفوس ، فلا يخطر على البال أنها منكرات . فواجب على كل مسلم ومسلمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب الاستطاعة ، وبخاصة فيمن تحت يده ، من منكرات البيوت وما في حكمها ، وعلى كل صاحب علم وقلم ، وقدرة على البيان ، وكل ذي أثر في المجتمع ، أن يقوم بالإرشاد والتوجيه ، والنصح في الأمر والنهي ، والسعي في إفشاء المعروف وزوال المنكر .

ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه ، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في منكر المنكر أن يكون كامل الحال ، ممتثلاً لكل أمر ، مجتنباً لكل نهي ، بل عليه أن يسعى في إصلاح حاله ، مع أمره ونهيه لغيره . و مما أستدل به أهل العلم على ذلك قوله سبحانه في بني إسرائيل ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ . مما يدل على اشتراكهم في المنكر ومع هذا حصل عليهم اللوم على ترك التناهي فيه .

الخطبة الثانية

عن جرير رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مامن قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله تعالى منه بعقاب» أخرجه الإمام أحمد وغيره. فكل من شاهد منكراً ولم ينكره فهو شريك فيه ، فالمستمع شريك المغتاب ، ويجري هذا في جميع المعاصي : في مجالسة المدخنين ، أو البقاء مع المغنين ، أو المكوث مع العابثين ، ناهيك عن الجلوس مع المستهزئين ، أو البقاء أمام الشاشات ، أو الانبساط مع الكاشفين للعورات ، المستهينين بالمحرمات ، العابثين بالحرمات . وقد يقول بأنني لست مقراً لهم ، وأنني منكر عليهم بقلبي ، فيقال : إن درجة الإنكار بالقلب تستلزم المفارقة ، ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ .

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضا بالكفر كفر ، قال الله عز وجل : ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء . و ينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية و عملوا بها ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .

وقد يتعلل بعض الناس ويعذرون أنفسهم في عدم إنكار المنكر بالاحتجاج بقوله تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ فيفهم بعضهم من هذه الآية أن المسلم إذا ألزم نفسه طريق الهداية ، وسلم من المنكرات ، فليس ملزما بدعوة غيره ، فلا يأمر غيره بمعروف ، ولا ينهاه عن منكر ، وهذا فهم خاطئ

أخرج أصحاب السنن عن قيس ابن أبي حازم قال : صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه». وعن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر لا يضرك من ضل إذا اهتديت .

أيها المسلمون : كم نرى في اليوم الواحد من المنكرات ، وكم نسمع من المخالفات ، وكم ينقل إلينا من الثقات ، كم ترى في اليوم من متهاون بالصلاة ، كم تعرف من قاطع رحم ، وكم ترى من عاق لوالديه ، كم يمر عليك من مسبل ثوب ، كم تسمع من متلذذ بالغناء ، كم ترى من حالق لحية ، وكم يمر عليك من مدخن ، ما أعظم حقهم عليك ، وما أقربهم إليك ، وما أسهل دعوتهم ، وما أعجل استجابتهم ، فهل حاولت وما استطعت ؟ إن أعيتك الكلمات ، وخشيت من المواجهة ، فدونك الشريط والكتاب ، وإن قصرت بك ذات اليد ، فالرسالة نافعة ، وإن لم تستطع التعبير ، فالدعاء سلاح من أعيته الحيل ، وانغلقت في وجهه الأبواب