الحث على العمل والتحذير من البطالة

بسم الله ارحمن الرحيم

الحث على العمل والتحذير من البطالة

الحمد لله جعل المال قوام الحياة ، به يصلح المرء دينه ودنياه ، وأشهد أن لا إله إلا الله قسم الرزق ، وقدر الأجل ، وأسبغ فضله وأعطى من سأل ...

أيها الناس : إن من المسلمات المعلومة ، أن المال زينة الحياة الدنيا ، وأنه مطلوب محبوب ، وأن الإسلام لا يمنع كسبه من كل طريق مشروعة ، لتقضى به الحقوق ، وتؤدى الواجبات ، وتصان الحرمات ، إن المال لا يطلب لذاته ، وإنما لما يضمنه من مصالح ، ولما يحققه من منافع ، إنه وسيلة لا غاية، والوسيلة تحمد أو تعاب ، بقدر ما يترتب عليها من نتائج ، وقد قال تعالى عن المال، وما يسوقه من خير أو شر: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِلْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِلْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ﴾ ولقد شرع الإسلام العمل ورغب فيه ، لمصالح جمة ، وفوائد عظيمة ، منها : إقامة دين الله وجه الأرض ، ورفع الذل عن المسلمين ، فلا عزة إلا بقوة ، ولا قوة إلا بعمل . فإذا وجد الصانع الماهر ، والزارع البارع ، والمحترف الحاذق ، والتاجر الذكي الفطن ، قام أمر المسلمين بجد وصلاح ، وقامت صناعتهم و زراعتهم ، وسد المحترفون حاجاتهم ، وبذلك لا تهون الأمة ولا تخضع ولا تذل ، فرحم الله عبدا كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل ، وذكر ربه ولم ينس نصيبه من الدنيا .

عباد الله : لا يليق بالرجل القادر، أن يرضى لنفسه ، أن يكون حمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلا مرذولا، وأن يقعد فارغا من غير شغل، قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري من حديث المقدام «ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»  و قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : «كان زكريا عليه السلام نجارا» واستمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» فقال أصحابه وأنت يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم «نعم كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة» خرَّجه البخاري عن أبي هريرة . ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش، وقال عمر رضي الله عنه: إني أرى الرجل فيعجبني شكله، فإذا سألت عنه فقيل لي: لا عمل له ، وقال عبد الرحمن بن عوف: يا حبذا المال ، أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي ، ذاك عباد الله : هو عبد الرحمن بن عوف الذي قدم مهاجراً إلى المدينة فقيراً ، لا مال له ولا بيت ، تاجر ونمى ماله ، حتى كان يتصدق بأربعين ألف دينار ، وكما كان عبد الرحمن ، صورة حية للاستغناء عن الناس ، فكذلك كان بقية إخوانه المهاجرين ، قدموا إلى المدينة فقراء ، تركوا خلفهم ما يملكون ، فهل أحدثوا في المدينة بطالة ؟ أو أنشؤوا مشكلة تسول ؟ كلا لقد وسعتهم المدينة ، فإذا هم ينعشون الأسواق والنخيل ، يعملون بها وهم خير البشر بعد الأنبياء ، فما شعروا بحرج أو انتقاص .

وقال محمد بن عبيد: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس بالمسجد الحرام، فيقول: ما يجلسكم؟ قلنا: فما نصنع ؟ قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين.

ثم اعلموا ـ رحمكم الله : أن البطالة من أخطر المشكلات الاجتماعية ، وأسوئها عاقبة، وأشدها تأثيرا على طمأنينة الحياة ، وهناءة العيش، وهي رُقْيَةُ التسول والسرقة ، والغش والخداع ، إنها قضية الساعة ، والبلاد تعيش حياة بطالة مصطنعة ، صنعتها ضعف التربية ، وقلة الشمولية ، وانعدام الخطط والدراسات المستقبلية ، فإذا بنا تفاجأ بها ، في بلد تستورد فيه الهياكل البشرية ، لخدمة المجتمع ، والعمل من أجله ، في بلد يعتبر من أغنى البلاد في ثرواته ، في بلد تكثر فيه فرص العمل والإنتاج ، في بلد مفتوح تمارس فيه التجارة ، بحرية وأمان .

عباد الله : نحن الذين صنعنا البطالة ، بتربيتنا لأبنائنا ، حين جعلناهم ينظرون إلى من هو أعلى منهم في الدنيا ، ويتعلقون بالأعمال الإدارية ، لأنها أقل جهداً ، وأكثر رفاهية ، وراتبها مضمون ، يحلم أحدهم بالمكتب الوثير ، والكرسي الدوار ، وجهاز الحاسب ، يأمر وينهى ، وليس له هم إلا قراءة الجرائد ، والتوقيع على المعاملات ، وما علمناهم الجد في الأعمال التجارية ، و العرق في الأعمال الحرفية والصناعية . نحن الذين صنعنا البطالة حين وفرنا في البيوت الخادمات ، و أوجدنا في أسواقنا من يزاحمهم في فرص العمل ، وعودناهم بأن جميع مطالبهم مجابة ، ورغباتهم محققة ، ولسان حالنا :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

لقد أصبح منظراً مألوفاً ، أن ترى شباباً يترددون على المساجد والجمعيات ، ويطلبون المساعدات ، ترى أجساماً قوية ، وسواعد فتية ، و الكنوز تملأ بلادهم ، والخيرات يتسابق عليها غيرهم ، وقد تركوا ذلك كله ورضوا بسؤال الناس ، قال صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري من حديث الزبير بن العوام : «لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيأتي الجبل ، فيجيء بحزمة حطب على ظهره ، فيبيعها ويستغني بثمنها ، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» . بارك الله ....

الخطبة الثانية : عبدَ الله :

ينجح ولدك من الثانوية ، فبقدر فرحك بنجاحه ، بقدر خوفك من عدم قبوله في الجامعة ، تقلب طرفك ذات اليمين وذات الشمال ، هل من شفاعة حسنة ؟ أم هل من واسطة ولو برشوة ؟ أظلمت الدنيا في عينيك ، وساءت أحوالك ، خصوصاً وأن معدله ضعيف ، ويدخل ولدك الجامعة ، بعد معاناة وعيون دامعة ، وتتنفس الصعداء ، لبضع سنين ، ثم يعاودك الهم ، ويزعجك الغم ، يوم أن يجيء بالشهادة الجامعية ، ويضعها بين يديك : الوظيفة يا والدي ! فتذهبت تطرق أبواب الديوان ، وتبحث عن المعارف والخلان ، وظفوه في أي مكان ، وبأي مرتب كان ، المهم أن لا يبقى علي عالة ، وظيفة الحكومة ما عنها مناص ، فوظائف الشركات غير مضمونة ، وترضخ تحت ضغوط الواقع ، وتوظف ولدك في شركة أو مؤسسة ، ولا تزال عينه على وظيفة الحكومة ، فهو الآن في مرحلة انتقالية ، ولذلك تراه كسولاً ملولاً ، يتأخر عن الدوام ، ولا يلتزم بالنظام ، فيطرد من الشركة ، فإلى أين المسير ؟ إلى النهاية المعروفة ، والطريق المألوفة ، إلى الملاعب والملاهي ، وعلى الأرصفة وفي المقاهي ، إلى العكوف على الشاشات ، وتقليب القنوات ، إلى التفحيط والسرقات ، إلى الإدمان على المخدرات . وقتل الآباء والأمهات ، هذه نهاية البطالة .

 فهل أنتم عنها غافلون ؟ أم لها متجاهلون ؟ مالي أراكم لا تتحركون ، وللمشكلة تواجهون ، وعلى حلها تتعاونون ، أو ما فكر أحدكم في أبواب التجارة ؟ أما قال يوماً دلوني على سوق المدينة ؟ أما خطر بباله العمل في حرفة ؟ وما دار في خلده طرق أبوب التجارة أو النجارة ، أو ما تعلمون ، بان كثيراً من العمالة الوافدة الآن ، ما كان أحدهم يعرف الفرق بين الكوع والحنفية ! وفي مدة وجيزة ، تراه قد أخرج العوامة من نافذة سيارته ، وأخذ يجوب الأسواق ، ويطلب الأرزاق ، فقد أصبح اليوم سباكاً ماهراً!! والآخر ما رأى الحاسب في حياته ، إلا في المطار ، وهو يغادر بلاده إلى هذه الديار ، وفي أشهر معدودة ، يصبح المهندس المعروف ، الذي تتزاحم عنده الصفوف !! والثالث لا يعرف العمارات ، ولا المخططات والصبات ، فبيوتهم من الخشب و الخوص ، ومع الإقدام والشجاعة ، ترقى من عامل مغمور ، إلى نجار مشهور ، ثم إلى مقاول موفور!! والرابع لا زالت في بلده الحمير والعربات ، ولا يعرف كيف تسير السيارات ، وفي مدة قصيرة ، تراه المهندس البارع ، وطبيب الكهرباء ، وفني السمكرة .

 ولا أقصد – والله – انتقاصهم ، ولكن لتعلموا : أن الدراسة ليست كل شيء ، وأن التقلب في الوظائف ، ليس مصدر الرزق الوحيد ، وإليكم يا عباد الله : مثالاً محسوساً ، من واقعنا المعاصر : من هم أغنياء المجتمع اليوم ؟ أليس فيهم من لا يقرأ ولا يكتب ؟ بل هل عرفتم أحداً منهم نالها بالوظيفة ؟ وإن تعجب فعجب !! .

أيها الشاب : إن أغلقت أمامك الأبواب ، فإن حلها بيدك بعد تقوى الله ، بعد أن تتخلى عن بعض شرطك ، وتقنع ببعض طموحك ، وتتغاضى عن بعض أحلامك ، فأنت تعيش يومك لا أمسك ، وعليك أن تنزل إلى ميدان العمل والتجارة ، إنه لا عيب على أحد في أي عمل مباح ، يكف به وجهه ، ويحفظ به دينه ، ويستر به عرضه ، ويسلم به من شر الفراغ والبطالة .