الجنة وأسباب دخولها

بسم الله الرحمن الرحيم

الجنة وأسباب دخولها

فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ،وسارعوا إلى مغفرة ربكم ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته .

أيها المسلمون، الحديث عن النعيم المقيم، هو سلوة الأحزان، وحياة القلوب، وحادي النفوس ، ومهيجها إلى ابتغاء القرب من ربها ومولاها. حديث لا يسأمه الجليس ، ولا يمله الأنيس.

عزت دار الفردوس من دار، وجل فيها المبتغى والقرار، غرف مبنية طابت للأبرار . جل وتقدس من سواها وبناها، غرسها الرحمن بيده ، وجعلها مستقرًا لأهله وخاصته، وملأها برضوانه ورحمته، فيها الفوز العظيم ، والملك الكبير ، والنعيم المقيم ، ولموضع سوط فيها خير من الدنيا وما فيها .

أيها المسلمون : يحشر المتقون إلى الرحمن وفدًا، ويساقون إلى الجنة زمرًا. لقد وجدوا ما وعدهم ربهم حقًا، رضي عنهم ورضوا عنه ، أول زمرة منهم يدخلون الجنة على صورة القمر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريٍّ، على صورة أبيهم آدم ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرةً وعشيًا ﴿دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ

يناديهم المنادي: لكم النعيم سرمدًا، تحيون ولا تموتون ، وتصحون ولا تمرضون ، تشبون ولا تهرمون ، وتنعمون ولا تبأسون.

الجنة عرش الرحمن سقفها، والمسك والزعفران تربتها، اللؤلؤ والياقوت حصباؤها، والذهب والفضة لبناتها: ﴿غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ﴾ عاليات الدرجات ، في عاليات المقامات، بهيجة المتاع ، قصر مشيد ، وأنوار تتلألأ، وسندس وإستبرق ، وفرش مرفوعة، ظلها ممدود، وسدرها مخضود ، قطوفها دانية للآكلين، وطعمها لذة للطاعمين ، ذللت قطوفها تذليلاً، فيها أزواج مطهرة ، حسان الوجوه ، في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، تقصر عن حسنهن عيون الواصفين ﴿عُرُباً أَتْرَاباً (37) لاِصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ﴾ لا يفنى شبابها، ولا يبلى جمالها ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ﴾ حور عين ، راضيات لا يسخطن أبدًا، ناعمات لا يبأسن أبدًا، خالدات لا يزلن أبدًا ، يجتمع أهل الجنة في ظلها الظليل ، يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم ، والتسنيم والسلسبيل، تتوالى عليهم المسرات والخيرات ، والإحسان والمكرمات.

في الجنات يأتلفُ شملهم ، مع آبائهم وأزواجهم و ذرياتهم ﴿جَنَّـٰتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ

ولقد بقي بعد الحسنى الزيادة؛ استمع يوم ينادي المناد: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم: (أي يطلب زيارتكم) فحي على الزيارة فينهضون إلى الزيارة مبادرين ، ثم ينادي المناد: يا أهل الجنة: سلام عليكم ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ﴾ يا أهل الجنة هذا يوم المزيد؛ ثم يكشف الرب الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من النور ما يغشاهم. فيا قرة عيون الأبرار ، بالنظر إلى وجه الكريم الغفار﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ﴾ إنهم أصحاب الحسنى وزيادة: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِٱلاْسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ﴾ بربهم يؤمنون، وبه لا يشركون ،وهم من خشيته مشفقون، أقاموا الصلاة ، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون ، عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. لأماناتهم وعهدهم راعون. طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، وأخذوا من الزاد بما يكفي لطويل السفر، كثر استغفارهم فحطت خطاياهم، وكل ما طلبوا من ربهم أعطاهم، فسبحان من اختارهم واصطفاهم، فيهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون، متحابون في جلال الله، فيهم صاحب القرآن ، فيهم تارك المراء ، وبيت في الجنة لمن حسن خلقه، يكظم الغيظ ويعفو عن الناس ، فيهم من أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، عيون تبكي من خشية الله ، وعيون باتت تحرس في سبيل الله ، يخافون يومًا عبوسًا قمطريرًا، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرًة وسرورًا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله، رضي من عباده اليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له

 سأل معاذ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ؟ قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل. ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به. فقال: ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم»

أيها المسلمون : هذه هي الجنة، فوا عجباً كيف ينام طالبها؟ وكيف يزهد في مهرها خاطبها؟ وكيف يطيب العيش في هذه الدار ، بعد سماع هذه الأخبار ؟ وكيف يقر للمشتاق القرار ، دون معانقة الأبكار ؟ وكيف تصبر عنها أنفس الموقنين؟ وكيف تصدف عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعتاظ عنها نفوس المعرضين؟

إنها الجنة: لله قوم نهضت بهم الهمم ، فساروا إليها مدلجين ، لم ينزلوا في الطريق مستريحين، ساروا إليها تحدوهم أشواقهم غير متعثرين ، حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين ، ما ضرهم في الدنيا ما أصابهم ، جبر الله لهم بالجنة مصابهم .

عباد الله : هذا سبيل الجنة فهل رأيتم أشد غبنـًا ممن يبيع الجنان العالية ، بدنيا فانية، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرت أيامًا أحزنت دهورًا، آلامها تزيد على لذاتها، وأحزانها أضعاف مسراتها ، فيا حسرة هذا المغبون حين يعاين كرامة الله لأوليائه ، ضيع الصيام ، وفرط في القيام ، أدرك رمضان ولم يغفر له ، فأبعده الله ، ولسوف يعلم أي بضاعة أضاع .

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل. اللهم إنا نسألك نعيمًا لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.