سد الذرائع

بسم الله الرحمن الرحيم

سد الذرائع

3/2/1432هـ(غ)

فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي لا يخفى عليه شيءٌ من المقاصد والنوايا، ولا يَسْتَتِرُ دونه شيءٌ من الضمائر والخفايا. السرائر لديه بادية، والسرُّ عنده علانية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

أيها المسلمون: للدين قواعد؛ بقدر الإحاطة بها تتحقق السلامة من المزالق، وعلى قدر الأخذ بها تنجو الأمة من المضائق، ومن قواعد الشرع المعتبرة، وأصوله المقرّرة، وأسسه المحرّرة؛ اعتبارُ مآلات الأفعال، ونتائج الأعمال. وبالنظر إلى ما يؤول إليه الفعل يُعلم حكمه، ويسهل وصفه، وقد يكون العمل في الأصل مباحًا، لكن يُنْهَى عنه لما يؤول إليه من المفسدة. وكلُ مشروع مآله غير مشروع فهو في الشرع ممنوع، وكل جائز يُفْضِي إلى غير جائز فهو في الشرع غير جائزٍ.

وكلُّ من أقدم على الفُتْيا، وتوثّب عليها، ومَدّ باع التكلّف إليها، وليس له معرفةٌ ودراية بهذا الأصل الأصيل والأساس الجليل؛ جاء بالعظائم والمصائب، وأفتى بالشذوذ والغرائب، وهكذا دَيْدَنُ كُلِّ من تسلّق مقام الفُتْيا بلا تأصيل ولا تحصيل.

ومن استَقْرَأَ الشرع في مصادره وموارده؛ وجده شاهدًا على اعتبار هذا المعنى، ومرتّبًا عليه أحكامًا عظمى، والغاية الكبرى؛ سَدُّ كل ما يحمل على خَرْم قواعد الشريعة وأحكامها، ويُفضِي إلى فتح باب الشر والفساد والانحلال، ولو كان في أصله جائرًا. ومن ردّ هذا المعنى لزمه أن يردّ كل القيود التنظيمية، واللوازمِ المصلحية، التي تضبط حياة الناس الدنيوية، والتي لولاها لصارت الحياة فوضى بلا حدود، وشقاءً غير مردود، مع أن تلك القيود واللوازم؛ قائمة على تقييد ما هو مباحٌ أصلاً، ومنع ما هو جائز شرعًا.

 

أيها المسلمون: إن الشريعة مَبْنِية على الأخذ بالحزم، والتحَرُّز مما عسى أن يكون طريقًا إلى الفتنة والاختلال، وفساد الأحوال، قال جلّ في علاه ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فنهى عن سبّ آلهة المشركين ـ وإن كان جائزًا ـ لكونه ذريعة لمقابلة المشركين ذلك بسبّ الإله الحق رب العالمين، وفيه دليلٌ على أن الجائز يُمْنَعُ منه إذا أدّى فعله إلى ضرر في الدين. وبال أعرابيٌ في طائفةِ المسجد فثار عليه الناسُ، فقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : «لا تُزْرِمُوه، دعوه»، فتركوه حتى بال، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بِذَنُوب من ماء فأُهْرِيق عليه. متفق عليه. فكَفَّهم عما هو مشروعٌ لمصلحةٍ راجحة، وهي دفعُ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيلُ أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.

 

وامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب عمر رضي الله عنه قَتْل عبدالله بن أُبيّ وقد ظهر نفاقُه، وقال «لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» متفق عليه ، وامتنع صلوات الله وسلامه عليه ـ عن إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: «لو لا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر» أخرجه مسلم

 

وُمنِعَ الصائمُ من المباشرة إذا كان لا يملك نفسه؛ خشيةً مما قد يُفْضِي إلى إبطال صومه. قال الترمذي: "ورأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا مَلَك نفسه أن يُقَبِّل، وإلا فلا؛ ليسلم له صومُه" ، وشُرِعَ عدمُ مباشرة الحائض إلا من وراء حائل؛ خشية أن تُفْضِي مباشرتُها بلا حائل إلى إتيان المحرم، وكل ذلك جَرْيًا على قاعدة: سَدّ الذرائع، والنظر في مآلات الأفعال.

 

ومن أدلة هذا المعنى قول المولى جل وعلا: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ فمنعهن من الضرب بالأرجل ـ وإن كان جائزًا في نفسه ـ لئلا يكون سببًا إلى سماع الرجال ما يثير دواعيَ الشهوة والطمع فيهن.

 

ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب، أو تصيب بخورًا ـ مع جوازه في نفسه ـ لئلا يكون ذريعة إلى مَيْل الرجال، وتعرضهم لها؛ لأن رائحتها وإبداء محاسنها يدعو إليها، وأمرها أن تقف خلف الرجال وأن لا تُسبّح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تُصفّق ببطن كفّها على ظهر الأخرى، وكل ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن المفاسد، وإغلاقًا لباب الفتنة.

 

عباد الله: وكل فعلٍ يُفْضِي قطعًا إلى إفساد المرأة، وإفلاتها عن رقابة وليّها ونظر أهلها، ويؤدي إلى ضياعها وتعريضها للعابثين، ويُسهّل حصول الشر لها، ووقوع الاعتداء عليها؛ فيجب سَلْب اسم الإباحة وحكمها عنه، وإن كان في الأصل جائزًا؛ لأنه صار بذلك الإفضاء المقطوع به حرامًا. وما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام. والأسباب والطرق تابعة لمقاصدها، ووسائل المحرمات والمعاصي في حكمها بحسب إفضائها إلى غايتها، ووسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، ووسيلة الممنوع تابعة للممنوع وكلاهما ممنوع، وإباحة الوسائل والذرائع المُفْضِية إلى الحرام المنصوص عليه نقضٌ للتحريم وتغييرٌ لأحكام الشريعة. فاللهم .............................

الخطبة الثانية

الحمد لله

أيها المسلمون: وإذا كان الشرع يمنع من الجائز المُفْضِي إلى الحرام فما القول في من يسلك مسالك التأويل والتحريف لرد نصوص الكتاب والسنة وتوهينها وإضعافها والتشكيك في دلالتها بالجدل بالباطل والمكر الفاجر، وينادون به حيلةً، ويظهرونه خديعةً، ويجعلونه وسيلة إلى استباحة المحظور وإسقاط المُتَحَتِّم المأمور، وذلك لاستباحة المحظور المُسْتَبَان، وتجريء العامّة على العصيان، وإضعاف التمسك بدين الإسلام ،

عبد الله: إن البليّة المُهْلِكَة ما وقع فيه الأعمّ الأغلب من الخوض في الحلال والحرام بمجرد الآراء والأهواء، حتى صارت القضايا الفقهية، والنوازلُ العَصِيّة مُعْتَرَكًا للنـزال وأمواجِ الأقوال في تضاعيف الصحف والمجلات والمنتديات، يخوض فيها كل جاهل، ويتناولها كل عاطل، ويدلي فيها بقوله كل سافل. يُحكَم فيها بما يراه الأغلب هو الأنسب افتراءً على الله، وافتياتًا على علماء الأمة، وتجاسرًا على الدين. شرٌّ مُحْدِق، وبلاءٌ مُطْبِق، وسبيلٌ مُوبِق.

أيها المسلمون: في زمن ظهر فيه المخادعون بثوب الإصلاح، والمنافقون بمظهر النصح والإشفاق، والمحتالون بلبوس الغَيْرَة والولاء، يجادلون في الحق بعد ظهور صُبْحِه، وسطوع براهين صدقه. وعند وقوع الاشتباه، وظهور المخالفة والمعارضة، يتعين مراجعة علماء الأمة، وأكابر مفتيها

ومما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في مسألة قيادة المرأة للسيارة  : فقد كثر حديث الناس عن قيادة المرأة للسيارة ، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها ، منها : الخلوة المحرمة بالمرأة ، ومنها : السفور ، ومنها : الاختلاط بالرجال بدون حذر ، ومنها : ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور ، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة ، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت ، والحجاب ، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع ، فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانة للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة . وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلى ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : « ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » وإنني أدعو كل مسلم أن يتقي الله في قوله وفي عمله ، وأن يحذر الفتن والداعين إليها ، وأن يبتعد عن كل ما يسخط الله جل وعلا أو يفضي إلى ذلك ،. وقانا الله شر الفتن وأهلها ، وحفظ لهذه الأمة دينها وكفاها شر دعاة السوء ، ووفق كتاب صحفنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر المسلمين ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .