وداع رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

وداع رمضان

الجمعة 29/9/1422ه

عباد الله :

اتقوا ربكم ، فإنه عفو غفور ، جواد شكور ، وهو وحده سبحانه مصرف الشهور ، ومقدر المقدور ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ، وقد جعل لكل شيء سبباً، ولكل أجل كتاباً، ولكل عمل حساباً، وما ربك بغافل عما تعملون.

عباد الله :

اتقوا الله وتفكروا في أحوالكم وسرعة زوالكم .

بالأمس القريب كنا ننتظر شهر رمضان المبارك ، انتظار الضيف الغالي ، والوافد الكريم ، طمعاً فيما أعده الله فيه من الخيرات ، ورغبة في التنافس في الطاعات ، فهو موسم تعرض فيه أغلى السلع بأرخص الأسعار ، تعرض فيه الجنة الغالية : فتفتح فيه أبوابها ، وتيسر أسبابها ، وتعرض فيه المرابح العظيمة حيث الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، والله يضاعف لمن يشاء ، موسم تسد فيه طرق الهلاك : فتغلق فيه أبواب النيران ، وتصفد فيه مردة الشياطين ، فتهجر فيه المحرمات ، ويسهل فيه فعل الخيرات .

فما ينتهي رمضان إلا والمؤمن الحق قد ألف الخير ، ونفر عن الشر ، مما يكون سبباً لاستمراره على الاستقامة في بقية السنة .

لقد كانت أيام هذا الشهر معمورة بالصيام والذكر والقرآن ، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام ، وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام . فمضت تلك الأيام الغرر ، وانتهت تلك الليالي الدرر ، كأنما هي ساعة من نهار ، فنسأل الله الكريم أن يخلف علينا ما مضى منها بالبركة فيما بقي ، وأن يختم لنا شهرنا بالرحمة والغفران والعتق من النيران ، والفوز بدار السلام ، وأن يعيد أمثاله علينا ونحن نتمتع بنعمة الدين والدنيا ، والأمن والرخاء إنه جواد كريم .

عباد الله :

إن ربكم الكريم شرع لكم في ختام شهركم عبادات جليلة يزداد بها إيمانكم وتكمل بها طاعاتكم وتتم بها نعمة ربكم ، منها :

زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد .

فأما زكاة الفطر : فقد فرضها نبيكم صاعاً من طعام ، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال :« فرض رسول الله زكاة الفطر: صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى »

وفيه من حديث أبي سعيد الخدري قال :« كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر صاعا من طعام ، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر»

فأخرجوا عباد الله زكاة الفطر مخلصين لله جل وعلا ، ممتثلين لأمر رسوله ، فقد فرضها على جميع المسلمين حتى من في المهد ، وأما الحمل في البطن فلا يجب الإخراج عنه إلا تطوعا .

أخرجوها مما تطعمون من البر أو الأرز أو التمر أو غيرها ، أخرجوها طيبة بها نفوسكم ، واختاروا الأطيب والأنفع ؛ فإنها صاع واحد في الحول مرة فلا تبخلوا على أنفسكم بما تستطيعون .

يوم العيد قبل الصلاة أفضل إن تيسر لكم ولابأس أن تخرجوها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تقديمها على ذلك ، كما لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد .

وأما التكبير : فإنه لما كانت المغفرة والعتق كل منهما مرتب على صيام رمضان وقيامه أمر سبحانه وتعالى عند إكمال العدة بتكبيره وشكره فقال جل وعلا :" ولتكملوا العدة …

فكبروا الله عباد الله من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد ، كبروا الله في البيوت والمساجد والطرقات والأسواق، قائلين :

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .

واجهروا بها تعظيماً لله وإظهاراً للشعائر ، إلا النساء فيكبرن سر

وأم صلاة العيد : فقد أمر نبيكم بها الرجال والنساء ، ففي الصحيحين من حديث أم عطية قالت « أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق والحيض وذوات الخدور ، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة وفي رواية المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين فقلت يا رسول الله : إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال :لتلبسها أختها من جلبابها » فاخرجوا عباد الله إلى صلاة العيد رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً ، تعبدا لله جل وعلا وامتثالاً لأمر رسوله وابتغاءً للخير ودعوت المسلمين ، فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل ، وجوائز من الرب الكريم تحصل ، ودعوات طيبات تقبل ، واعلموا أن السنة في الفطر أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة تمرات وتراً ثلاثاً أو خمسا أو أكثر إن أحب يقطعهن على وتر، دل على ذلك قول أنس « كان رسول الله لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويكلهن وتراً »وقد قال ربكم جل وعلا :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ 

الخطبة الثانية:

عباد الله :

اعلموا أن الأعمال بالخواتيم ، فمن كان محسناً في شهره فعليه بالإتمام ومن كان مسيئاً فعليه بالتوبة والعمل الصالح فيما بقي ، فربما لا يعود عليه رمضان بعد هذا العام .

فاختموه بخير ، واستمروا على مواصلة الأعمال الصالحة التي كنتم تؤدونها فيه في بقية الشهور ، فإن رب الشهور واحد ، وهو مطلع عليكم وشاهد ، ومن كان يعبد رمضان فإنه قد انقضى وفات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، فليستمر على عبادته في جميع أيام الحياة ، وليداوم عليها فإن عمل نبيكم كان ديمة .

وقد سئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان فإن انقضى ضيعوا وأساءوا ؟ فقال : بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان ، وكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد بقبوله، ويخافون ألا يتقبل منهم وهؤلاء ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ وقال بعض السلف : كانوا يدعمن الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم .

واعلموا عباد الله : أن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها ، فيختم به الصلاة والحج والصيام والقيام وغيرها .

قال عمر بن عبد العزيز فيما كتبه إلى أهل الأمصار : " قولوا كما قال أبوكم آدم :" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكو نن من الخاسرين" وقولوا كما قال نوح عليه السلام :" وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " وقولوا كما قال موسى عليه السلام :" رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام :"سبحانك إني كنت من الظالمين "

فصيامنا عباد الله يحتاج إلى استغفار نافع وعمل صالح له شافع ، وقريب من هذا أمر نبيكم لعائشة في ليلة القدر بسؤال العفو : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني

فإن المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله تعالى إلا العفو ، كالمسيء المقصر.

واعلموا أن أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة الصادقة ، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود ، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بهد الشهر ويعود ، فصومه عليه مردود ، وباب القبول عبه مسدود ؛ لأن ذلك فعل من بدل نعمة الله كفراً .

عباد الله إن شهركم قد عزم على الرحيل ، ولم يبق منه إلا القليل فم أحسن فيه فعليه بالتمام ، ومن فرط فليختمه بالحسنى ، والعمل بالختام . فاغتنموا منه ما بقي واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم عند الملك العلام ، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام .