أسباب المغفرة

 

الحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَمَّ بِفَضْلِهِ كُلَّ حَيٍّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى اله وصحبه وَمَنْ وَالَاهُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ لُقْيَاهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تَقْوَاهُ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.


أَيُّهَا النَّاسُ: حَدِيثٌ نَبَوِيٌّ قُدْسِيٌّ عَظِيمٌ، يُلْقِي عَلَى اَلنُّفُوسِ اَلطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّكِينَةَ، وَيَفْتَحُ لِلْمُسْلِمِ أَبْوَابَ اَلْأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ، وَيُغْلِقُ عَنْهُ مَنَافِذَ اَلْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، قَالَ اَلنَّبِيُّ ﷺ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ -أَيْ: السَّحَابَ- ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ وَأَبْوَابٍ فَتَحَهَا لَكَ رَبُّكَ لِيَغْفِرَ بِهَا ذُنُوبَكَ،

 أَوَّلُهَا: اَلدُّعَاءُ مَعَ اَلرَّجَاءِ، فَمَا دُمْتُ تَدْعُو اَللَّهَ وَتَرْجُو رَحْمَتَهُ وَلَمْ تَيْأَسْ مِنْ عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ ذُنُوبَكَ وَيَمْحُوهَا عَنْكَ كُلَّهَا وَلَا يُبَالِي، وَلَا يَهْتَمُّ بِهَذِهِ اَلذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اَلْكَبَائِرِ.


 وَالثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ اَلْمَغْفِرَةِ: اَلِاسْتِغْفَارُ، فَلَو عَظُمَتْ ذُنُوبُكَ، وَمَلَأْتَ كَثْرَتُهَا مَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَ رَبَّكَ وَطَلَبْتَ مِنْهُ اَلْمَغْفِرَةَ، لَغَفَرَ لَكَ ذُنُوبَكَ كُلَّهَا وَلَا يُبَالِي، وَلَا يَهْتَمُّ بِهَذِهِ اَلذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَكَثْرَتِهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ مِنَ اَلْكَبَائِرِ. وَهَذَا اَلِاسْتِغْفَارُ هُوَ اَلْمَقْرُونُ بِالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ اَلذَّنْبِ وَعَدَمِ اَلْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْلَعَ اَلْعَبْدُ عَنِ اَلذَّنْبِ وَعَزَمَ عَلَى عَدَمِ اَلْعَوْدَةِ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، غَفَرَ اَللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ.


 وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ اَلِاسْتِغْفَارِ: أَنْ يَبْدَأَ اَلْعَبْدُ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ، ثُمَّ بِالِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ اَللَّهَ اَلْمَغْفِرَةَ، كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي-أَيْ: أَعْتَرِفُ لَكَ بِذَنْبِي- فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ».


مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا -أَيْ: مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ-، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.


 بَارَكَ اَللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي اَلْقُرْآنِ اَلْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ اَلْآيَاتِ وَالذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ اَلْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبـًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،


أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ مَغْفِرَةِ اَلذُّنُوبِ اَلْوَارِدَةِ فِي اَلْحَدِيثِ: اَلتَّوْحِيدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اَللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. فَمَنْ فَقَدَهُ فَقَدَ اَلْمَغْفِرَةَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَسْبَابِ اَلْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّ اَلْعَبْدَ إِذَا لَقِيَ رَبَّهُ بَعْدَ اَلْمَوْتِ بِمَلْءِ اَلْأَرْضِ ذُنُوبًا وَخَطَايَا، وَلَكِنَّهُ مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُشْرِكُ بِرَبِّهِ أَحَدًا، لَا فِي اَلرُّبُوبِيَّةِ وَلَا فِي اَلْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا فِي اَلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَإِنَّ اَللَّهَ يُقَابِلُ هَذِهِ اَلذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِي، بِمَلْءِ اَلْأَرْضِ عَفْوًا وَمَغْفِرَةً؛


فَاَللَّهُ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ، يَغْفِرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اَلشِّرْكَ إِذَا مَاتَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، فَإِنَّ اَللَّهَ لَا يَغْفِرُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.


هَذَا وَصَلَّوْا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، فَقَد أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليماً﴾، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ. اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَهُمْ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِيْنَ مِنْهُمْ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.


اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا. اللَّهُمّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ عَمَلَهُ فِي رِضَاكَ، وارْزُقْهُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، الَّتِي تَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ وَتَعَيُّنُه عَلَيْه، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يَا غَفُورُ يَا رَحِيمُ، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. سُبْحَانَ رَبِّك رَبَّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.