ما بعد رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

ما بعد رمضان

الجمعة 6/10/ 1422ه

الحمد لله

عباد الله :

إن التاجر إذا دخل موسماً من مواسم التجارة ، فتاجر فيه وباع واشترى طلباً للربح ، فإنه بعد انتهاء هذا الموسم وتصفية معاملته فيه ، ينظر مبلغ ربحه وما حصل عليه من المكاسب ، ينظر هل ربح أو خسر ؟ هل غنم أو غرم؟

هذا الاهتمام البالغ في تجارة الدنيا وعرضها الزائل ، تعتبرونه حذقاً ورشداً ، ونحن قد مر بنا قريباً موسم من مواسم تجارة الآخرة الباقية ، تجارة لن تبور ، يربح فيها أهل الاستقامة والصلاح رحمة الله ، ويحصل فيه المذنبون على مغفرة الله ، لقد مر بنا هذا الشهر بخيراته ، وعشنا أيامه ولياليه ، فلنحاسب أنفسنا ماذا ربحنا فيه ؟ وماذا استفدنا منه ؟ وما أثره على نفوسنا ؟ وما مدى تأثيره على سلوكنا ؟ وهل تقبل منا أعمالنا فيه أو ترد علينا؟

عباد الله :

لقد كان شهر رمضان ميدانا للتنافس ، اجتهد فيه أقوام ، جعلوا رضا الله فوق أهوائهم ، وطاعته فوق رغباتهم ، أذعنوا لربهم في كل صغير وكبير ،صاموا شهرهم ، فعظم في ربهم رجاؤهم . وقصر آخرون فأضاعوا أوقاتهم ، وخسروا أعمالهم ، ما حجبهم إلا الإهمال والكسل ، والتسويف وطول الأمل .حتى إذا ضاق بهم الوقت ، وخافوا المقت ، ندموا على التفريط حين لا ينفع الندم ، وطلبوا الاستدراك في وقت العدم : وهيهات هيهات .

والأدهى من ذلك والأمر أن يوفق أناس لعمل الطاعات ، والتزود من الخيرات ، حتى إذا ما انتهى الموسم ، نقضوا ما أبرموا ، وعلى أعقابهم نكصوا فكانوا ﴿ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾، استبدلوا بالطاعات المعاصي ، استبدلوا بالمساجد الملاعب ، استبدلوا بالقرآن الغناء ، استبدلوا بالسواك السيجارة .

وهذا وللأسف حال أكثر الناس اليوم ، تجده يعمل ويعمل ويعمل في رمضان حتى إذا بلغ من الخير مبلغاً ، وبدأ يشعر بطعم العبادة ولذة الخشوع ،هدم كل ذلك بعد رمضان ،فإذا جاء رمضان آخر شرع يبني من جديد فلا يكاد يبلغ منزله الأول حتى ينكص على عقبيه . ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ ولو أنهم أحبو الطاعة لمل تخلوا عنها طرفة عين .

أين أثر التقوى التي ألفها في هذا الشهر الكريم ؟ أين حرق المجتهدين في نهاره ؟ أين قلق المتهجدين في أسحاره ؟ أين رقة المتعبدين في صيامهم ؟ أين خشوع المتهجدين في قيامهم ؟ أين أعين جادت فيه بدمعها حين تذكرت قبيح صنعها ؟

لقد تولت كما تولى غيرها ، وانقضت بما فيها .

عباد الله :

اعلموا أن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه سبحانه لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، وإن الله تعالى إذا أراد بعبده الخير فتح له بين يدي موته باب عمل صالح يهديه إليه، وييسره عليه، ويحببه إليه، ثم يتوفاه عليه، وكل امرئ يبعث على ما مات عليه، فالزموا ما هداكم الله له من العمل الصالح، واحذروا الرجوع إلى المنكرات والقبائح، فليس للمؤمن منتهى من العبادة دون الموت ، قال ربكم جل وعلا: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 

عباد الله :

إن كان الصوم المفروض قد انقضى فإن من نافلة الصوم صيام ست من شوال , ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر » ولئن كانت التراويح قد انقضى وقتها فإن قيام الليل ما يزال مشروعاً مرغباً فيه ، ففي صحيح البخاري من حديث ….. عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل ». فيا عباد الله لا تكونوا كمن كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل , في الصحيحين من حديث … صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل », عباد الله دونكم الرواتب فالزموها ، والوتر يا عباد الرحمن فلا تضيعوه وكتاب الله فلا تهجروه

 

“ وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا “وفعل الخير فلا تعدموه ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه ، فإن لله ملائكة يقولون : اللهم أعط منفقاً خلفا ، وأعط ممسكاً تلفاً . ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ ، عظموا الله بتقديره وإجلاله ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ عظموه بتعظيم شعائره ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ عظموه بتعظيم حرماته ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ … ﴾. بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:

عباد الله :

لقد خلق الإنسان في كبد ، والمرء كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه ، وإن من أعظم ما يعين النفس على دوام الطاعة ألا تحمل من الأمر إلا ما تطيق ، ولا شك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي ينشدها ، ولذا فإن أخذ الراحة للجد جد ، ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس ، فليداوم النظر في سيرة المصطفى وليستمع إلى قوله كما عند أحمد من حديث ….« إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » وفي البخاري من حديث ….أنه قال:« إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه » وفي الصحيحين من حديث … أنه قال :« يا أيها الناس خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل » واعلموا رحمكم الله أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال ، بل يعني التوسط والاعتدال ، مع محافظة المرء على ما اعتاده من العمل .فلا غلو ولا جفاء ، لا إفراط ولا تفريط ، فإنه لم يأت في القرآن لفظ الإفراط والتفريط على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح قال سبحانه عن الملائكة : ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ وقال عن موسى وهارون : ﴿ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ وقال سبحانه : ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ ﴾ وقال عن أهل النار : ﴿ قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ وقال جل شأنه : ﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إلى ربكم ، وتمسكوا بسنة نبيكم على فهم سلفكم الصالح ، وعضوا عليها بالنواجذ تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة . قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : ( السنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقل الناس فيما بقي ، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في ترفهم ، ولا مع أهل البدع في بدعهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك إن شاء الله فكونوا ) عباد الله : إن المسلم إذا ذكر تذكر ، وإذا وعظ اتعظ ، ولم يصر على ذنوبه ومعاصيه ، فتوبوا إلى ربكم ، ولا تبطلوا أعمالكم ، فيا رجال التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي المعاصي من بعد الفطام ، فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال ، وعليكم بالصبر على مرارة الفطام ، لتعتاضوا عن لذة المعاصي بحلاوة الإيمان .

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه : ﴿ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 

عباد الله : سلوا الله الثبات على الطاعات حتى الممات ، وتعوذا به من تقلب القلوب ، ومن الحور بعد الكور .

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة