قصة مريم و امرأة عمران

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

أما بعد.. فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة


امرأة صدِّيقة، وفتاة عابدة قانتة، خلَّد القرآنُ ذِكرَها في سورة سُميت باسمها؛ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ زُكِّيت قبل ميلادها، وبزَغ فجرُها في بيتٍ صلاحُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾

فعِمرانُ والدُ مريمَ ابنةِ عمرانَ أُمِّ عيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ والبيتُ الذي يُظَلِّلُه الدينُ، ويضاء بالطاعة يثمر خيرا


امرأةُ عمرانَ وقبل مولد مريم

كانت نيتُها صادقةَ فقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾: أي جعلتُ لكَ يا ربِّ نَذْرًا أنَّ ذلك الذي في بطني محرَّرٌ لعبادتكَ، وحبستُه على طاعتِكَ، وخدمةِ قُدسِكَ، لا أَشغَلُه بشيءٍ من الدنيا.


والدعاءُ للذريةِ أساسُ التربيةِ، ومفتاحُ الصلاحِ والإصلاحِ،

 وامرأةُ عمرانَ أحاطت النيةَ الصادقةَ بدعاء خالص أن يتقبَّل اللهُ منها فقالت؛ ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾

أي: السامع لدعائي، العالِم بما يكون صالحًا؛ لأنَّ الإنسانَ قد يسأل الشيءَ وليس مِنْ صالحِه حُصُولُه، فيُسنِد الأمرَ إلى عِلْمِ اللهِ -عز وجل-، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾، قالت ذلك اعتذارًا منها إلى الله أنَّها وضعَتْها أنثى، لا تَصلُح للخدمة في بيت المقدس،


ثم قالت: وليس الذكر الذي أردته للخدمة كالأنثى، الذَّكَر أقوى على الخدمة وتحمُّل الأعباء وأقومُ بها؛ فلا سواءَ بين الذَّكَر والأنثى، بل لكلِّ واحدٍ منهما ميزاتُه وخصائصه،


تَقَبَّلَ اللهُ دعاءَ امرأةِ عمرانَ في مولودتها: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾، النبات الحَسَن بكمال الأدب والعِفَّة والحشمة، والصحبة الصالحة التي تُعِين على الطاعة والعبادة، ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فاللهُ قد يُيَسِّر للإنسان من الرزق ما لا يكونُ في حُسبانِه؛ يرزقُ مَنْ يشاء من عباده بغير عِوَضٍ وبغيرِ حسابٍ فتأمل عظم توحيدها

وحسن توكلها على الله


والابتلاءُ سنةُ الحياةِ، فابتُليت الصِّدِّيقَةُ مريمُ؛ فقد تنحَّت واعتزلَتْ عن قومها؛ لتتفرَّغ للعبادة؛ فأرسَل اللهُ إليها جبريلَ فتمثَّل لها في صورةِ رجلٍ تامّ الخِلقة، بحُسن فائق، وجَمال رائق؛ فظهَر منها الورعُ والعفافُ مع توفُّر جميع الدواعي؛ قالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ أب أستجير بالرحمن منك أن تنالني بسوء، إن كنت تقيًّا، فقال لها الْمَلَكُ: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا من غير أب؛ علامةً للناس تدلُّ على قدرةِ اللهِ -تعالى-، فأثنى الله عليها بقوله: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا﴾

فتَصَوَّرْ حالَ الصديقةِ مريمَ، وَوَقْعَ الأمر عليها؛ حين تُصبِح حاملًا بلا زوجٍ ولا مساسٍ من رجلٍ؛ حتى اضطرتها شدةُ الحال إلى تمنِّي الموت؛ ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ إنَّ تمنيها الموتَ عند الفتنة كان من جهة الدين، وهو أمرٌ مباحٌ؛ إذ خافَتْ أن يُظَنَّ بها الشرُّ، وتُعَيَّر ولا تُصَدَّق في خبرها، وما ورَد من النهي عن تمنِّي الموت؛ إنما هو لضُرٍّ نَزَلَ بالبدن.

 

وفي المواقف العصيبة والمحن، يأتي الفَرَجُ، ويمتدُّ اللطفُ، قال الله -تعالى-: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ ومَنْ كان مع الله لا يَحزَنُ، ومَنْ أَقبَلَ على الله قرَّتْ عَينُه، فلا تُرهِقْ نفسَكَ بالتفكير، فاللهُ عندَه حُسنُ التدبيرِ، ولا تَحْمِلْ همَّ المستقبل؛ فالأمرُ بيدِ اللهِ.


 وفي خِضَمِّ الحَيرة الشديدة يأتي التوجيه الرباني: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ صَمَتَتْ مريمُ الصديقة في موقفها العصيب؛ لِتُعَلِّمَنا أنَّ الإنسانَ يَبلُغُ به الحالُ في بعض الأحوال، مرحلةَ العجز حتى في الدفاع عن نفسه؛ فإِنْ هُوَ عَلِمَ أنَّ الله وَلِيُّهُ وهو كَافِيهِ؛ كفَاه اللهُ شرَّ كلِّ ذي شرٍّ،

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قَوْلِي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولكم فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 


الخطبة الثانية:

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوث بالهدى والنور المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين


أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل


وفي تكملة قصة مريم قال الله -تعالى-: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ اتهامُ الناسِ في أعراضهم، وإصدارُ الأحكامِ قبلَ التثبُّتِ إفكٌ بغيضٌ،، وبهتانٌ محرَّمٌ؛ ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾، ثم يقول الله لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ -سُبْحَانَهُ- إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾


اللهم اعز الاسلام والمسلمين

‏وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين

اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين وولي عهده لما تحب وترضى وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين

اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان ‏وردنا وإياهم إلى دينك الحق ردا جميلا

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات

‏ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وآخر دعواتنا الحمد لله رب العالمين