فضل العلم والحث عليه

فضل العلم والحث على تحصيله

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين . أما بعد : فيحمل هذا العلم من كان خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .

ولقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة ، بما لا يحصى ولا يستقصى كثرةً ، على بيان رفعة شأن العلم وأهله ، والترغيب في النهل من معينه الصافي ، وسلسبيله العذب الشافي . استمع إلى قول الله تعالى : ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية دليل على فضل العلم ، وشرف العلماء . وقوله تعالى : ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قال القرطبي رحمه الله : قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ﴾ قال ابن القيم رحمه الله : فما ثم إلا عالم أو أعمى . وقال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيباً يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين . وإنما أنا قاسم ، والله يعطى ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله » . رواه البخاري ومسلم . وعند الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظً وافر »

وروى الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامه قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان : أحدهما عابد ولآخر عالم فقال عليه أفضل الصلاة والسلام : « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم » ثم قال « إن الله وملائكته ، وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير »

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على السراء ، والمعين على الضراء ، والوزير عند الأخلاء ، والقريب عند الغرماء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواماً ، فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدي بهم ، أدلة في الخير ، تقتص آثارهم ، وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتهم تمسحهم ، يستغفر لهم كل رطب ويابس ، حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، والسماء ونجومها ، والعلم حياة القلوب من العمى ، ونور للأبصار من الظلم ، وقوة للأبدان من الضعف ، يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى . التفكر فيه يعدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وهو إمام للعمل ، والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يرفع ، ورفعه هلاك العلماء فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء ، أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم وإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم .

وروى كميل بن زياد قال : أخذ على بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي , فأخرجني ناحية الجبانة ، فلما أسحر جعل يتنفس ثم قال : يا كميل بن زياد القلوب أوعية , فخيرها أوعاها ، احفظ عني ما أقول لك ، الناس ثلاثة فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، العلم خيرٌ من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال . العلم يزكو على الإنفاق ، والمال تنقصه النفقة ، العلم حاكم والمال محكوم عليه ، ومحبة العلم دين يدان بها ، العلم يكسب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، وصنيعة المال تزول بزواله ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقى الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة ، …. إلى أن قال : لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه لكيلا تبطل حجج الله وبيناته ، أولئك الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا منه ما استوعر منه المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه ، ودعاته إلى دنيه ، هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم ، وأستغفر الله لي ولك إذا شئت فقم .

الخطبة الثانية:

فلما حضرت معاذ بن جبل ، رضي الله عنه الوفاة ، قال لجاريته : ويحك هل أصبحنا ؟ قالت : لا، ثم تركها ساعة ثم قال : انظري فقالت نعم فقال : أعوذ بالله من صباح إلى النار، ثم قال : مرحباً بالموت ، مرحباً بزائر جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم . اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ، لجرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكن كنت أحب البقاء ، لمكابدة الليل الطويل ، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر .

أخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد وغيره من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيراً ، ثم شددت رحلى ، فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس . فقلت للبواب : قل له جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟! قلت : نعم . فخرج فاعتنقني ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه وذكر الحديث .

وعن عطاء بن أبي رباح قال : ( خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم وأتى منزل مسلمة الأنصاري ، وهو أمير مصر ، فأخبر به ، فعجل إليه فعانقه ، وقال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغير عقبة ، فابعث من يدلني على منزله ، قال فبعث معه من يدله على منزل عقبة فأخبر عقبة به ، فعجل فخرج إليه فعانقه وقال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك ، فقال : نعم وذكر الحديث فقال له أبو أيوب ( صدقت ) ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته وركبها راجعاً إلى المدينة . وروى ابن ماجة في سننه عن كثير بن قيس قال : كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق . فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء أتيتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :فما جاء بك تجارة ؟ قال : لا ، ولا جاء بك غيره ؟ قال : لا ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة »

وقال الحافظ بن حجر رحمه الله في الفتح : روى الدار مي بسند صحيح عن بسر بن عبيد الله : قال : إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد . وعن أبي العالية قال كنا نسمع الحديث عن الصحابة ، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم ) . هذه نماذج من سير سلفنا الصالحين ، فهل نحن على جادتهم سائرين ، ولآثارهم مقتفين ، فقد تهيأت الفرص ، وقامت الحجة ، وتيسر العلم ، ولم يبق إلا البدار . وإني من هذا المكان أحث الإخوة جميعاً ، كباراً وصغاراً ، شيباً وشباباً ، رجالاً ونساءً ، لحضور دروس الدورة العلمية الثامنة ، التي ستعقد في هذا الجامع بمعدل خمسة دروس يومياً ولمدة ثلاثة أسابيع إبتداءً من فجر يوم غد إن شاء الله .