فصل الشتاء

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل الشتاء

الحمد لله

فإن الزمان بليله ونهاره ، وشهوره وأعوامه ، آية من آيات الله ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ كم ضرب الله في كتابه العزيز من الأمثال ، وذكر من الآيات ، لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرى ، الريح العقيم ، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، وهذا وللأسف لا يزيد بعض الناس إلا بعداً ، وعن منهج الله إلا إعراضاً ، غرهم الإمهال ، وخدعتهم الآمال .

عباد الله : إن تقلب الأجواء من حر وبرد ، آية من آيات الله الكونية ، يقلب المسلم فيها طرفه ، ويكيف فيها نفسه ، ويعمل فيها فكره ، جاء الشتاء فأخذ الناس يتقون برده ، ويحتاطون من خطره ، ويتنافسون في التدثر ، بما سخر الله لهم من الأسباب ، لكن هناك أمراً غفل عنه الكثير ، وهو ربط هذا الأمر بأمر الآخرة ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه في المناسبات ، كما عند البخاري ومسلم ، قال صلى الله عليه وسلم « اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً ، فأذن الله لها بنفسين ، نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فهو أشد ما تجدون من الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير »

أيها المسلمون : ما عبد الله عز وجل بمثل الخوف منه ، قال أبو سليمان الداراني - رحمه الله - : ( أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل ، وكل قلب ليس فيه خوف من الله فهو قلب خرب ).

ولقد حذر الله عباده من النار وكرر الوعيد بها ، وضرب لها من الأمثال في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه ما تشيب منه الولدان ، وتتقطع منه القلوب والأفئدة ، لكن أين المعتبرون ؟ وأين الخائفون من الله حق خوفه؟ هل انتبهت من نومها القلوب الغافلة ؟ وهل ثابت إلى رشدها النفوس السادرة ؟ أين الخوف من النار الذي نال الملائكة المقربين في قول الحق سبحانه وتعالى ﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ . وأين الخوف من النار الذي لحق الأنبياء والمرسلين في قوله تعالى ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا ﴾ . وأين الخوف من النار الذي أقض مضاجع الصالحين فــ﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ ، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ .

إن الناس كلهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم ، ويوفرون لهم الوسائل الواقية من الحر والبرد ، وإذا ما اشتدت عليهم سموم الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصائف ، ليتقوا حر الدنيا وبردها ، لكنهم لا يقيمون وزنا لنار جهنم ، ولا يعملون على وقاية أنفسهم ومن تحت أيدهم منها ، والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾

وإن من علامات الشقوة العمل للدنيا والإعراض عن الآخرة .

تفر من الهجير وتتقيه *** فهلا من جهنم قد فررت

جاء الشتاء حتى يعتبر العقلاء ويتذكروا نعمة الله عليهم . يجب أن نستشعر تيسير تلك النعم التي يتقى بها البرد وشدته وأن نحمد الله تعالى عليها ، ونشكره على تسخيرها وسهولة الحصول عليها .

وكما قيل : إن النعم بشكرها تقر ، وبكفرها تفر.

﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ، فبشكر النعم تدوم على أصحابها في الدنيا ويبقى شكرها ذخرا لهم في الآخرة ، كما قال صلى الله عليه وسلم « ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة » .

إن وفرة تلك النعم من ملابس الشتاء ووسائل التدفئة وغيرها ، تنسي كثيرا من الناس إخوانا لهم من المسلمين قد حرموا كثيرا من أساسيات الحياة فضلا عن كمالياتها ، فلا بد أن يتذكر كل منا أولئك المسلمين الذي يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، وقد عصفت بهم الحروب والفتن من كل حدب وصوب ، فهم مسلمون لهم حق الأخوة