قصة قارون

إن الحمد لله…

وأشهد أن لا إله إلا الله …..

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾

أما بعد:، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ ...﴾.

قص الله علينا القصص في القرآن لنتعظ ونأخذ العبرة

كان قارونَ مِن بني إسرائيلَ مِن عَشيرةِ موسى، فتكبَّرَ على قَومِه، وتَجاوَزَ الحدَّ في احتِقارِهم؛ بسَبَبِ غِناه .كما قال تعالى: ﴿ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾.

وقد آتاه الله أموالًا كثيرةً مُدَّخَرةً يَثقِلُ حَمْلُ مَفاتيحِها  لكثرتها على الجَماعةِ الأشِدَّاءِ مِن الرِّجالِ، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾.

وعظه صالحو قومه، فقالوا لا تفرح بما أنت فيه من المال فرح الأشرين البطرين، الذين لا يشكرون اللّه على ما أعطاهم

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾.

أي استعمل ما وهبك اللّه من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والاخرة، ﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أي مما أباح اللّه فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه، ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، ﴿وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ﴾ أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض بالشرك والمعاصي وتسيء إلى خلق اللّه ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾.

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ قال: لولا رضا اللّه عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال، قال اللّه تعالى رادا عليه  ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾.

لأن الله يعاقبهم عليها لعلمه بها كلها ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ خرج قارون ذات يوم على قومه، في زينة عظيمة وتجمل باهر: ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ وهم ضِعافِ الإيمانِ، ﴿يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ﴾.

اي قال العلماء الراسخون أهل العلم النافع : ويْلَكم، نعيمُ الجنَّةِ الَّذي أعَدَّه اللهُ في الآخرةِ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالحًا: خيرٌ مِن مُلكِ قارونَ، ولا يُوفَّقُ لذلك إلَّا الصَّابِرونَ كما في الحديث الصحيح: «يقول اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم: ﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾».

وبينما كان قارون يمشي مختالا متكبرا في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم، جاءه العقاب العظيم من رب العالمين

﴿فَخَسَفنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرضَ فَما كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرونَهُ مِن دونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنتَصِرينَ﴾

أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه، ولا دفعوا عنه نقمة اللّه وعذابه ونكاله، ولا كان هو نفسه منتصراً لنفسه فلا ناصرٌ له من نفسه ولا غيره، ﴿وَأَصبَحَ الَّذينَ تَمَنَّوا مَكانَهُ بِالأَمسِ يَقولونَ وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَينا لَخَسَفَ بِنا وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكٰفِرونَ﴾.

فليس المال بدالٍّ على رضا اللّه عن صاحبه، فإن اللّه يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وهذا كما روي في الحديث: «إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب»، ﴿ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ أي لولا لطف اللّه بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله، ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ﴾ فلا يفلح الكافرون عند اللّه لا في الدنيا ولا في الآخرة،

﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾

وختم الله القصة  بأن أخبرنا أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون ﴿عُلُواًّ فِي الأَرْضِ﴾ أي ترفعاً على خلق اللّه وتعاظماً عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً بفعل المعاصي ،

﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: والعاقِبةُ المحمودةُ في الدُّنيا والآخرةِ لِلَّذينَ يَتَّقونَ سَخَطَ اللهِ وعَذابَه؛ بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه، فيَنصُرُهم اللهُ في الدُّنيا، ويُدخِلُهم الجنَّةَ في الآخِرةِ

فاللهم اجعلنا من الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا واجعلنا من المتقين

الخطبة الثانية:

الحمد لله …

من فوائد هذه القصة العظيمة

التَّحذيرُ مِن الشرك والفساد والتَّعالي والبَغيِ على الخلْقِ

وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها

و أنَّ عَطاءَه سُبحانَه ليس دليلًا على حُسْنِ حالةِ المُعْطَى

وأن العاقِلُ يَغبِطُ مَن أنفَقَ مالَه في سبيلِ الخَيراتِ، ونَيلِ عُلُوِّ الدَّرَجاتِ، والجاهِلُ يَغبِطُ مَن أنفَقَ مالَه في الشَّهَواتِ، وتوصَّلَ به إلى اللَّذَّاتِ المحَرَّماتِ

ومن فوائد القصة مَدْحُ مَن لا يريدُ العلوَّ في الأرضِ ولا الفَسادَ، وأن طلَبُ شرَفِ الدُّنيا بالشهرة والرِّفعةِ فيها، والرِّياسةِ على النَّاسِ والعُلوِّ في الأرضِ أضَرُّ على العبدِ مِن طلَبِ المالِ، وأن إيثارُ ثَوابِ الآجِلِ على العاجِلِ هي حالةُ العُلَماءِ

فأهلُ العلمِ الَّذين يَعلمونَ حقائقَ الأمورِ يعلمون أنَّ هذه الدُّنيا ليست بشَيءٍ، وأنَّ ثوابَ الآخرةِ أعظَمُ وأجَلُّ وأنَّه ما يوفق للأعمالَ الصَّالحةَ وجزاءَها والحُظوظَ العظيمةَ إلَّا أهلُ الصَّبرِ .

وأنَّ اللهَ تعالى إذا أنزَل العقوبةَ بأحدٍ؛ فليس له ناصرٌ دونَ اللهِ، ولو عَظُمَتْ قوَّتُه، وكَثُرَ جندُه

وأن من  أرادَ العُلُوَّ في الأرضِ والفَسادَ لم يكُنْ مِن أهلِ السَّعادةِ في الآخِرةِ

فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واهدنا الصراط المستقيم

اللهم اعز الإسلام والمسلمين

وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين

‏اللهم احفظ علينا الأمن والإيمان

اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين وولي عهده لما تحب وترضى وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين

اللهم احفظنا واحفظ شبابنا ونساءنا من كيد الكائدين ومكر الماكرين وافساد المفسدين من المهربين والمروجين وغيرهم

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء

والربا والزنا والزلازل والمحن

ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا وسائر بلاد المسلمين

‏اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات

‏ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وآخر دعواتنا الحمد لله رب العالمين