علو الهمة

بسم الله الرحمن الرحيم

علو الهمة

إن الحمد لله …………. أما بعد فإن من محاسن الأخلاق ، وطيب السجايا ، علو الهمة

فكبير الهمة من يتحرى الفضائل ، لا للذة ، ولا لثروة ، ولا استعلاء على البرية ، بل يتحرى مصالح العباد ، شاكراً بذلك نعمة الله ، وطالباً به مرضاته ، غير مكترث بقلة مصاحبيه ، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد ، وطرق العلياء قليلة الإيناس .

قال سفيان بن عيينة : ( اسلكوا سبل الحق ، ولا تستو حشوا من قلة أهلها ).

إن كبير الهمة لا يزال يحلق في سماء المعالي ، ولا ينتهي تحليقة دون عليين ، فهي غايته العظمى ، وهمه الأسمى ، حيث لا نقص ولا كدر ، ولا تعب ولا نصب ، ولا هم ولا غم ولا حزن ، وإنما هي نور يتلألأ ، وريحانه تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة نضيجة ، وزوجه حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، في مقام أبدي ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ وعالي الهمة يعرف قدر نفسه ، في غير كبر ، ولا غرور ، قد صانها عن الرذائل ، وحفظها من أن تهان ، ونزهها عن دنايا الأمور ، وجنبها مواطن الذل ، بأن يحملها ما لا تطيق ، أو يضعها فيما لا يليق بقدرها ، فتبقى نفسه في حصن حصين ، وعز منيع ، لا تعطى الدنية ، ولاترضى بالنقص ، ولا تقنع بالدون . وقد أثنى الله على أصحاب الهمم العالية ، وفي طليعتهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل ، وقدأمر الله بالتنافس في الخيرات فقال عز وجل ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ وقال ﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ وقال ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من العجز والكسل وعلمنا صلى الله عليه وسلم علو الهمة كما عند البخاري من حديث أبي هريره –رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة » وكما عند مسلم من حديث ربيعة بن كعب قال « كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي ( سلني ) فقلت : ( أسألك مرافقتك في الجنة ) قال أو غير ذلك ؟) قلت : ( هو ذاك ) قال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ». وقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره ، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها ، فاستوحشوا من فتنتها ، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها ، وتناءت قلوبهم من مطامعها ، ، فلا تراهم إلا صوامين قوامين ، باكين والهين ، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشهد بعلو همتهم ، فعن وكيع قال : ( كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى ، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة ، فما رأيته يقضي ركعة ) . قال البخاري – رحمه الله - : ( ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد ) . وروى عن الرازي أنه قال : ( أول ما رحلت أقمت سبع سنين ، ومشيت على قدمي زيادة على الف فرسخ ثم تركت العدد وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ، ثم إلى الرملة ، ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة ) . وقال أبو زرعة : ( كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ) وقال : حفظت ما ئتي ألف حديث ، كما يحفظ الإنسان : ( قل هو الله أحد ) و قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – ( يادكين ، إن لي نفسا تواقة ، لم تزل تتوق إلى الإمارة ، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة ، فلما نلتها تاقت إلي الجنة ) .

وخامل الهمة كلما أراد أن يسمو إلى المعالي ، ختم الشيطان على قلبه : عليك ليل طويل فارقد ،وكلما سعى في إقالة عثرته ، والارتقاء بهمته ، عالجته جيوش التسويف والبطالة ، وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي ، والارتقاء بهمته ، واقتحام الأهوال ، والتخلي عن البطالة والعجز والكسل ، زجرها ونهاها .

وقد قص الله علينا من قول موسى – عليه السلام – لقومه : ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ وقال تعالى ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ . وقال في ذم المنافقين ﴿ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ وشنع _ عز وجل – على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويجعلونها أكبر همهم ، فقال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ … اللهم

الخطبة الثانية:

الحمد لله أما بعد

فإن من أسباب علو الهمة

العلم والبصيرة : فالعلم يرفع صاحبه عن الدنايا ، ويلزمه معالي الأمور ، ويتقي فضول المباحات ، ومنها : إرادة الآخرة ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم « من كانت همه الآخرة ، جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا راغمة » ومنها : كثرة ذكر الموت ، لأنه يدفع إلى العمل للآخرة ، والتجافي عن دار الغرور ، ومحاسبة النفس ، وتجديد التوبة . ومنها : صحبة أولي الهمم العالية ، ومطالعة أخبارهم

ومنها : الاهتمام والعناية بتربية الابن على معالي الأمور ، ومحاسن الأخلاق ، منذ نعومة أظفاره ، وعدم تجاهله واحتقاره ، فهذا أسامة بن زيد، يقود جيش المسلمين في حروب الردة وفيهم أبو بكر وعمر وعمره ثماني عشرة سنة ، و يقول الشافعي رحمه الله : كنت يتيماً في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب ، وهذا سفيان الثوري تقول له أمه : يابني اطلب العلم ، وأنا أكفيك بمغزلي ، والأوزاعي نشأ يتيماً في حجر أمه ، وتنقلت به من بلد إلى بلد ، حتى استفتي وله ثلاث عشرة سنة ،

فما بال بعض شبابنا اليوم ، قد صرفوا عن المعالي ، وغيبوا عن الفضائل ، وأبعدوا عن كريم الشمائل ، ورضوا بسبل الرذائل ، إذا سألت أحدهم عن مناه ، تنمى أن يكون ، مفحطاً موهوباً ، أو راقصاً معروفاً ، أو سائحاً في ديار الكفر مفتوناً ، أو متسكعاً في الأسواق معاكساً، أو مغنياً يطرب الجماهير ، أو لاعباً يهز المدرجات ، وإذا ارتفعت همتة فإلى جمع الطوابع ، أو ألعاب الحاسب الآلي .

أينهم من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم « فامض لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا البحر فخضته ، لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن نلقى عدونا غداً ، إنا لصبر في الحرب ، صدق عند اللقاء ، لعل الله يريك ما تقر به عينك ، فسر على بركة الله » هكذا يا شباب الإسلام ، فليتربى أبناء الأمة ، فلسنا اليوم في وقت اللعب ، ولسنا في وقت اللهو والطرب ، فالأمة تتلقى الطعنات تلو الفاجعات ، الأعداء يتربصون بها ، والمنافقون يكيدون بها ، أما ترون غدرهم في فلسطين ، أما تشاهدون مكرهم في الشيشان ، أما تسمعون جرائمهم في كشمير . فالعودة العودة يامسلمون ، إلى كتاب وسنة ، بفهم سلف الأمة ، تسعدوا بذلك وتسودوا ، اللهم ………