قسوة القلب

 

 
إن الحمد لله ..

 

أما بعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة

عباد الله إن الله خلق الناس وهدى من شاء منهم لدينه فضلاً منه وكرما، وأصاب بعضهم بعقوبة عظيمة بسبب ذنوبه، فجعل قلبه كالحجارة بل أقسى،  ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 74].

والله سبحانه لا ينظر إلى جمال خلقتكم، ولا إلى تمام عافيتكم، ولا إلى كثرة أموالكم، ولا إلى أصالة أنسابكم، ولا إلى علو جاهكم، إنما نظره سبحانه إلى قلوبكم وأعمالكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».رواه مسلم

قال ابن رجب رحمه الله: (فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا، قلبه خرابا من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءا من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً، كما في الصحيحين عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل جواظ مستكبر»).

يا عباد الله، هل حوت قلوبنا التقوى ولانت لذكر الله؟

هل أيقنت بلقائه؟ واستعدت لحسابه؟

كم مرت علينا المواعظ؟ والقلوب قاسية!

وكم دفنا من الموتى؟ والقلوب لاهية!

وكم تليت علينا الآيات؟ والأفئدة غافلة!

إلى متى والران على القلوب يقسيها؟ إلى متى ونحن في غفلة؟

فالأعوام تمضي، والسنون تسير، والأيام تطوى، والأعمار تفنى،  فهل من مدكر؟ وهل من معتبر؟

أيها المسلمون، لا تغرنا الدنيا، لا نغفل عن الآخرة، فإنا والله ميتون، وعلى ربنا قادمون، وعلى تفريطنا نادمون، فلنرحم أنفسنا رحمكم الله، ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 16].

قال ابن مسعود: « ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ إلا أربع سنين » رواه مسلم.

قال مالك بن دينار رحمه الله: (ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب).

قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [الزمر: 22].

قال ابن القيم رحمه الله: (متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله، والصلاة والسلام على خير خلقه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد: فاتقوا ربكم عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، واستعدوا للعرض الأكبر على الله، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

فألحوا على الله بالدعاء بأن يصلح قلوبكم ويجعلها مقبلة عليه، وتدبروا كتابه، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].

واجتنبوا المعاصي فهي السبب في قسوة القلوب، ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14].

وعليكم بأكل الحلال، قال الإمام أحمد رحمه الله: (بأكل الحلال تطمئن القلوب وتلين).

والزموا ذكر الله فإنه تأديب للقلب القاسي، جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد أشكو قساوة قلبي، فقال: (أدبه بالذكر).

وعليكم بزيارة المقابر وكونوا معتبرين متعظين بأنكم ستدخلونها يوماً محمولين، فإن ذلك مما يرقق القلب، ويدمع العين، ويذكر بالآخرة.

وحافظوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوها فإن البدعة جالبة للقسوة.

اللهم اعز الإسلام والمسلمين