العشر الأواخر

 

إن الحمد لله ..

أما بعدُ، فإن خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وشرَّ الأمورِ محدثاتُها وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ

أيها المسلمون . . إن من أعظم النعم التي ينعم الله بها على عبده أن يمد في أجله حتى يدرك زمنا فاضلا، ثم يعينه فيه على طاعته، والتقرب إليه بأنواع القربات، فتضاعف حسناته، وتقال عثراته، وترفع درجاته، ﴿فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وها أنتم يا عباد الله في بداية عشر مباركة، وليالٍ فاضلة، فأروا الله من أنفسكم خيرا، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

فإن الله يَجُودُ بالخيرات والمكارِم، وسِعَ الخلقَ جُودُه، ودامَت عليهم خيراتُه، واتَّصَلَت مِنَنُه وأرزاقُه، يبدَأُ العبادَ بالنَّوالِ قبل السُّؤال، ويُعطِيهم عليه أكثَر مِما يخطُرُ بالخَيالِ، وليس أحدٌ في السماءِ والأرضِ بمَعزِلٍ عن تلك الهِباتِ.

موسمٌ مُبارَكٌ آذنَت أيامُه بالانصِرام، والعاقِل مَن اغتنَمَ عشرَه فعمَرَها بالقُرَب والطاعاتِ، وحفِظَ نهاره، وأحيَا ليلَه.

 «كان - عليه الصلاة والسلام -، يجتهِدُ في العشرِ الأواخِرِ ما لا يجتهِدُ في غيرِه» (رواه مسلم).

 «وإذا دخَلَت العشرُ أحيَا - عليه الصلاة والسلام -، الليلَ، وأيقظَ أهلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَرَ» (متفق عليه).

وحرِيٌّ بالمُسلم فيها الحِرصُ على أنفَعِ الدُّعاءِ وأجمَعِه؛ قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: يا رسولَ الله! أرأيتَ إن وافَقتُ ليلةَ القَدر، ما أقُولُ فيها؟ قال: «قُولِي: اللهمَّ إنَّك عفُوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» (رواه أحمد).

والاعتِكافُ مِن خير الأعمال لتكفِير السيئات، ورفعِ الدرجات؛ «كان - عليه الصلاة والسلام - يعتكِفُ العشرَ الأواخِرَ مِن رمضان حتى توفَّاه الله - عزَّ وجل -، ثم اعتكَفَ أزواجُه مِن بعدِه» (متفق عليه).

وينبَغِي للمُعتكِفِ أن ينقطِعَ للعبادةِ ويشتغِل بمقصُودِه الأعظَم، بعيدًا عن فُضُولِ الخُلطةِ والكلامِ والمنامِ، ولا يخرُجُ مِن المسجِدِ إلا لحاجةٍ لا بُدَّ مِنها.

قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "ومقصُودُ الاعتِكافِ ورُوحُه عُكُوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخَلوةُ به، والانقِطاعُ عن الاشتِغالِ بالخَلقِ، والاشتِغالُ به وحدَه - سبحانه -؛ بحيث يَصِيرُ ذِكرُه وحُبُّه والإقبالُ عليه في محلِّ هُمومِ القلبِ وخطَرَاتِه".

وفي العشر يتحرَّى المُسلِمون ليلةَ القَدر؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «تحرَّوا ليلةَ القَدر في العشرِ الأواخِرِ مِن رمضان» (متفق عليه).

 ليلةٌ عظيمةٌ ذاتُ قَدرٍ وشرَفٍ، أنزلَ الله فيها سُورةً؛ تعظيمًا لقَدرِها، وتشريفًا لأمرِها، وإعلاءً لشأنِها؛ فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر: 2].

 جعلَها مُباركةً كثيرةَ الخَير؛ فقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ.

 ومِن بركاتِها: نُزولُ القرآن فيها؛ قال - سبحانه -: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وفيها تتنزَّلُ الملائكةُ إلى الأرضِ؛ قال - سبحانه -: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4].

 ليلةُ سلامٍ وأمنٍ واطمِئنانٍ؛ قال - سبحانه -: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5] أي: سالِمةٌ مِن الشُّرور.

إحياؤُها بالعبادة مغنَمٌ كبيرٌ؛ قال - سبحانه -: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

 

وفيها تُقدَّرُ مقادِيرُ الخلقِ لجميعِ العام؛ قال - جلَّ وعلا -: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا، ‏ومن قامها ‏إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه..

 فاروا الله من أنفسكم خيرا فإن المحروم من حرم الخير في هذه الليالي المباركة..

أقول ما تسمعون..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ..

قال - عليه الصلاة والسلام -: «رغِمَ أنفُ رجُلٍ دخلَ عليه رمضانُ ثم انسلَخَ قبل أن يُغفَرَ له» (رواه الترمذي).

فحري بالمؤمن أن يقتديَ بنبيه ، وأن يتفقد أهل بيته، ويحثهم على العبادة.  

فالأعمالُ بالخواتِيمِ، والعِبرةُ بكمالِ النهاياتِ لا بنَقصِ البداياتِ، ومَن أساءَ فيما مضَى فليتُبْ فيما بقِي؛ فبابُ التوبةِ مفتُوحٌ، وعطاءُ الله ممنُوحٌ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا.

واعلم أن التوفيق بيد الله والإعانة منه سبحانه والقبول بفضله ورحمته

وإنه والله لمن الحرمان أن تمر هذه الليالي المباركة على أُناس لا يلقون لها بالاً، فتجد أحدهم في النهار نائما، وفي الليل لاهيا لاعبا، بل ربما سهروا فيها على المحرمات، وارتكاب المآثم والمنكرات.

فاللهم لا تخذلنا بذنوبنا

ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين

وتب علينا لنتوب يا ارحم الراحمين

اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان وردنا وإياهم إلى دينك الحق ردا جميلا

اللهم أعز الإسلام والمسلمين