تربية الأبناء

بسم الله الرحمن الرحيم

تربية الأبناء

الجمعة : 27/10/1422ه

إن الحمد لله عباد الله :

يقول سبحانه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ….﴾ فالقرآن يهيب بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في التربية والتوجيه ، والتحذير والتذكير ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :( اعملوا بطاعة الله ، واتقوا معاصي الله ، ومروا أهليكم بالذكر ؛ ينجيكم الله من النار ) . فالأولاد : نعمة كبرى ، ومنة عظمى ، أنعم الله بها على من شاء من عباده ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وإن العاقل الذي أوتي هذه النعمة ليدرك أن استقرارها ، واستمرار أثرها على الإنسان في حياته و بعد مماته ؛ لا يكون إلا بتوجيهها التوجيه الذي أمر الله به ، والبعد كل البعد عن التساهل والتفريط في شأنها ، فإنها بجانب كونها نعمة ، هي ابتلاء واختبار وفتنة ، قال جل وعلا : ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ وقال :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ . قلب طرفك في صفحات التاريخ ، تقف على حقائق رائعة ، ونماذج فذة ، كلها صفاء وبهاء ، من اهتمام السلف الصالح بتربية أبنائهم ، والاعتناء بهم ؛ لأنهم أدركوا ما وراء شكرها والقيام بحقها ، من تتابع أجر ، وبقاء ذكر ، يقول سبحانه عن عباده المؤمنين :﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ قال عكرمة - رحمه الله - : والله ما أرادوا صباحة وجوه أبنائهم ، ولا جمال أجسادهم ، إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم ، وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل . و قال تعالى عن إبراهيم ويعقوب عليهما السلام :﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ وعن لقمان أنه قال لولده يوصيه :﴿ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ويقول له ليزرع في قلبه مراقبة الله جل جلاله :﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ وعن نبيكم صلى الله عليه وسلم: « يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله »

هكذا كانت أساليب الأنبياء والصالحين في التربية : ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح

ولكن أكثر الناس اليوم قد أهملوا هذا الجانب ، إهمال المستبدل الأدنى بالذي هو خير ، فمنهم من يمسي ويصبح ، ودنياه همه ، وشغله الشاغل ، لا يكاد يلتفت إلى أولاده ، إلا بقدر ما يوفر لهم من المأكل والمشرب ، وما يدري المسكين أنه بعمله هذا ترك لباب ذات اللباب النافع ، وجمع قشوره ، وأشر من هذا من يأخذ بهم في تربيته إلى العصيان ، قال العلامة ابن القيم :( من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى ، فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه ، فأضاعوهم صغارا ، فلم ينتفعوا بأنفسهم ، ولم ينفعوا آباءهم كبارا " أ.هـ أيها الأب المبارك : كيف ترجو صلاح ولدك وإحسانه ، وأنت قد جلبت له أسباب شقاءه ، هيأت له ما تقسوا به القلوب ، ترجو خيره وأنت لا تأمره بصلاة ، تراه مقيما على المعصية فلا تنهاه ، لا تأمره بمعروف ، ولا تنهاه عن منكر ، لا تدري إلى أين ذهب ، ولا مع من ركب ، لا تدري ماذا يشاهد ، وماذا يقرأ ، وماذا يسمع ؟!! بل لربما وصل بك الأمر أن تكون أول من يفعل المعصية أمامه .

وإليك لمحات سريعة ، تجاه تربية ولدك ، وفلذة كبدك ، فأرع يا رعاك الله لها سمعك ، وأحضر لها قلبك :

- اغتنم مرحلة الصغر ؛ فإن الولد في هذا السن صفحة بيضاء ، ويصعب عليك فيما بعد التدارك : إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب.

- أن لا يرى في سلوكك ما يخالف النصائح التي سمعها منك ؛ حتى تكون ثمرة التربية مجدية نافعة .

- اغرس في نفوسهم محبة الله و خوفه ورجاءه ؛ فإن ذلك سبب استقامتهم . ولا يكن أمرك لهم لأجل تحصيل منفعة دنيوية فقط ، فتجد بعضهم يقول : يا بني صل لتنجح . ولا يربطها بالفلاح في الدنيا والآخرة .

- أنشئهم على كريم الأخلاق ، وجميل الطباع ، ومعاني الرجولة ، والبعد عن الترف و الميوعة ، ولا تظنن أن توفير جميع مطالبهم ، وتأمين كل احتياجاتهم ، سبب كافٍ لصلاحهم ، بل قد يكون المنع والحرمان أحياناً أسلوب ناجح في التأديب ، وإن زعم بعضهم أن هذا هو التعقيد .

- اجعل لنفسك وقتاً في بيتك وبين أولادك ، تشغله بدرس في القرآن ، أو قراءة في كتاب ، أو سرد بعض قصص من مضى ؛ لأجل التأسي والاقتداء ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، كقصة أصحاب الغار ، وقصة الأقرع والأعمى والأبرص ، وقصة جريج ، و غير ذلك .

- الموعظة ، والنصح المباشر ، وإظهار الشفقة عليهم ، وإرادة صلاحهم .

- الزجر والتهديد ، وتوضيح مصير العاصين ، وذكر مآل المنحرفين ، وتبيين مخاطر البعد عن الدين .

- الضرب ، وهو آخر الدواء ، وإنما يكون ضرب تأديب وتعليم وتوجيه .

قسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحيانا على من يرحم

الخطبة الثانية :

عباد الله :

إن الإنسان إذا لم يقم على مراقبة أهله وأولاده ، وتربيتهم تربية صالحة ، فمن الذي يقوم عليها ؟ هل يتركهم تعصف بهم رياح الأفكار المضلة ، والاتجاهات المنحرفة ، والأخلاق الهدامة ، فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى لله حقا ، ولا للناس حرمة ، جيل فوضوي متهور ، لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، متحرر من كل رق إلا رق الشيطان ، منطلق من كل قيد إلا قيد الشهوة والطغيان . عباد الله :

إن بعض الناس يقول معتذرا : أنا لا أستطيع تربية أولادي ، فقد كبروا وتمردوا ، أقول فلا يسمع ، وآمر فلا يطاع ، وأنهى فلا يستجاب ، فأقول : تأملوا في واقع بيوتنا في هذه الأيام ـ أيام الاختبارات ـ كيف انقلبت رأسا على عقب ، وسائل الترفيه قد أبعدت ، وأجواء الدراسة قد هيئت ، والوالد في اهتمام دائم : ذاكر يا بني ، احرص على دروسك ، فهي مستقبلك ، وبعدها وظيفتك ، ومنها مصدر رزقك . هل تريد مدرساً خاصاً فنحضره ؟ أم تريد ملخصاً فنوفره ؟ أم تريد مالاً فندفعه ؟ وهو على ذلك مشكور ، وإذا أخلص النية مأجور. والمجتمع من حوله كذلك ، فلا يجد الابن ملاذاً ، ولا من المذاكرة مهرباً ، ولا عنها بديلاً . صلاة الفجر أصبحت مشهودة ، والطرقات أضحت مهجورة ، فأين من كان يعتذر بأنه لا يستطيع السيطرة على عياله : يقول فيسمع ، ويأمر فيطاع ، وينهى فيستجاب ، كل ذلك من أجل أمر من أمور الدنيا ـ لا يضر عدم تحصيله ـ . ألا يمكن أن يكون ذلك إلى شرع الله ، ألا يمكن أن توجه تلك الطاقات إلى القرآن والصلاة ، وسائر العبادات ؟ كيف استطعت ضبطهم وتنظيم وقتهم ، كيف قويت على إيقاظهم لصلاة الفجر ، كيف قدرت على منعهم من الخروج والذهاب والإياب ، والتسكع في الطرقات ؟ كيف ؟ وكيف ؟ وكيف ؟

عباد الله : ألا قائم بما أوجب الله عليه ؟ ألا مستيقظ لما بين يديه ؟ ألا خائف من سوء الحساب ؟ ألا راج لفضل الملك الوهاب ؟ ألا مستدرك للفائت قبل حلول المصائب ؟ ألا منتبه لحاضره ومستعد للعواقب ؟ قبل أن تقول نفس : ﴿ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ ﴾