الماء وخوف الزوال

الماء وخوف الزوال

الجمعة : 17/2/1422هـ (12)

الحمد لله

فاتقوا الله تعالى ، فإن تقوى الله خير مدخر وزاد ، واشتغلوا بشكر نعمه فإنه كلما شكر زاد ، واسمعوا إلى ما أخرجه مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له »

مقام الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، يشكرون الله في كل أحوالهم ، يشكرونه على نعمة الإسلام ، يشكرونه على نعمة العافية والصحة ، والسلامة في الأبدان ، يشكرونه على نعمة الأسماع والأبصار والعقول والبيان ، ويشكرونه على نعمة المطعم والمشرب ، فيا من توالت عليه النعم ، وصرفت

عنه النقم ، اشكر الله على ذلك ، الشاكرون أطيب الناس نفوساً ، وأشرحهم صدوراً ، وأقرهم عيوناً ، وقد تكون النعم إبتلاءً واستدراجاً

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

للمحن فوائد ، ولها على العبد عوائد ، لها على من وفقه الله آثار ، فهي سبب لمحو الأوزار ، فمن فوائدها : أنها سبب في معرفة عز الربوبية ، وذل العبودية ، كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ فاعتوفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إليه ،،، ومنها الإخلاص لله تعالى : إذ لا مرجع في دفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ ،،، ومنها الإنابة إلى الله والإقبال عليه ﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ﴾ ،،، ومنها التضرع والدعاء ﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا ﴾ ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ﴾ ،،، ومنها : الصبر عليها : وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – من ابتلي ببلاء قلبي أزعجه ، فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله ، ودوام التضرع والدعاء ، بأن يتعلم الأدعية المأثورة ، ويتوخى الدعاء في مكان الإجابة ، ويضم إلىذلك الإستغفار ، وليتخذ ورداً من الأذكار طرفي النهار ، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف ، فإنه لابد أن يؤيده الله بروح منه ، ويكتب الإيمان في قلبه ، وليحرص على إكمال الفرائض ولا يسأم من الدعاء والطلب ، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل ، وليعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ،،، ومنها : تمحيصها للذنوب والخطايا فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» ،،، ومنها : معرفة قدر النعمة : فإن النعم لا تعرف إلا بعد فقدها ،،، ومنها : ما فيها من الحكم الخفية ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ،،، ومنها أن المصائب تمنع من الأشر والبطر والفخر ، والخيلاء والتكبر والتجبر ﴿ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ﴾

للمحن والبلايا التي تصيب العباد أسباب منها الذنوب والمعاصي ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

من عقوبات الذنوب : أنها تزيل النعم ، وتحل النقم ، تزيل النعم الحاضرة ، وتقطع النعم الواصلة ، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته ، ولا استجلب مفقودها بمثل الانقياد لأوامره ، فما زالت نعمة عن العبد إلا بذنب ، ولا حلت به نقمة إلا بمعصية ، كما قال علي رضي الله عنه : ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة ، وقد قال تعالى ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ وقال : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ فأخبر تعالى بأنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد ، حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه ، فيغير طاعة الله بمعصيته ، وشكره بكفره ، ورضاه بسخطه ، فإذا غير غير عليه جزاءً وفاقاً ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإذا غير المعصية بالطاعة ، غير الله عليه العقوبة بالعافية ، والذل بالعز ، ومن العجيب علم العبد بذلك ، مشاهدة في نفسه ، أو معرفة بحال غيره ، أو سماعاً لأخبار من زالت عنهم النعم ، ومع ذلك فهو مقيم على المعصية ، كأنه مستثنى من الناس ، أو مخصوص من العموم ، وكأن الأمر جارٍ على غيره لا عليه ، وواصل إلى الخلق لا إليه ، فأي جهل أبلغ من هذا ، وأي ظلم للنفس فوق هذا ؟ فالحكم لله العلي الكبير ، فاتقوا الله عباد الله واعزلوا عن طريق المعاصي والذنوب ، فإن ذلك من تقوى القلوب ،،،،،،، أقول ما تسمعون

الخطبة الثانية:

الحمد لله

كان الإنسان في ما مضى في شوق مقيم ، وهيام دائم إلى الماء ، فنجده يكافح وينافح ، ويناضل ويجالد من أجل قطرة الماء ، يلاحقها أينما حلت ، ويتبعها أينما وجدت ، فهو في ترحال دائم ، وتنقل مستمر ، عينه معلقة في السماء ، يتتبع مواقع القطر ، ويتسقط مواطن الماء ، ويراقب حركة السحاب ، فكم من غارة شنت ، ومن نار حرب شبت من أجل غدير ، أو اغتصاب بئر ، و تأمين الماء اليوم من أهم القضايا التي تشغل الحكومات ، وبخاصة في المناطق التي يكثر فيها الجفاف ويندر فيها الماء ، وفي هذا القرن ظهرت مشكلات عديدة وخطيرة ، وأزمات مباغتة حادة ، تمثلت في ندرة المياه ، ومشكلة الغذاء ، وتلوث البيئة وغيرها ، وكلها مشاكل باتت تهدد الإنسان ، وتقلقه في كل مكان ، فلئن جاز الصبر عن لقمة العيش ، فإنه لا يحتمل تجاه الماء ، إذ الحاجة إليه أشد ، والصبر عنه أشق ، والعطش أخطر وأدهى من الجوع .

وقد حدث في الأسبوع الماضي حدث جلل ، وأمر خطير ، حادثة إذا أمعن فيها النظر ، وأجيلت فيها الفكر ، وتأمل فيها المتأملون ، وتوقف عندها العالمون ، علم الناس مقدار ضعفهم ، وقلة حيلتهم ، وكثرة عجزهم ، وأنه لا حول لهم ولا قوة الا بربهم ، ذلكم هو أمر نعمة من نعم الله علينا سابغة ، وإلى منازلنا واصلة ، لا نقدرها حق قدرها ، ولا نوفيها من الشكر حقها ، حتى قل عليها الحصول ، وأصبح من العسير إليها الوصول ، اضطربت أحوال الناس ، وأصبحوا بين راج ويائس ، فمن مفكر في حفر بئر في بيته ، ومن متذكر قريته القديمة ، لعل له فيها سكناً ، عسى أن يجد بيتأً يؤويه ، وماءً يسقيه ، ارتفعت أسعار الناقلات ، حتى أصبحت بالمئات ، ناهيك عن ما يكابده من المشقة ، فقد بعدت عليه الشقة ، وآخرون تذكروا صلاة الاستسقاء ، وقد كانوا يدعون إليها فيما سبق ، فيزعمون أنهم إليها غير محتاجين ، فالماء وفير ، وهذا من الإسراف والتبذير ، فهب ولاة الأمر وفقهم الله لإصلاح المشكلة التي بحمد الله ما طالت ، وظن البعض بأنها قد انتهت وزالت ، لكن للمتأمل معها وقفات : الماء يا عباد الله أعز مفقود ، وأهون موجود ، إنه أصل الحياة ، من الذي أنشأه من عناصره ، ومن الذي أنزله من سحائبه ، إنه الله الذي قدر أن يكون عذباً فكان ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَّأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ ﴾ هل تخيلتم حجم المشكلة ، ماذا لو طالت مدتها ؟ ماذا لو تكرر حدوثها ؟ أعمال البشر وإن زعموا ناقصة ، قدراتهم وإن ظنوا ضعيفة ، فهي عرضة للآفات ، ومظنة وقوع الهفوات . أما من خطوات عملية لتلافي مثل تلك الحوادث ، والخروج من تلك الكوارث ، إن على كل منا مسؤولية ترشيد استهلاكه من المياه كما روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال :« ما هذا الإسراف يا سعد ؟ قال : أفي الوضوء سرف ؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار» وهناك خطوة أخرى وهي الاستفادة من المياه المستعملة في البيوت والتي لم تخالطها نجاسة إلا يمكن تجميعها وتكريرها وإعادة الاستفادة منها ، حفاظاً على هذه النعمة وخشية من زوالها ، وقبل ذلك وبعده التوبة من الذنوب ، وكثرة الاستغفار ، والاستقامة على الدين ، أسباب يستنزل بها المطر ، وتستدفع بها النقم