القلوب

بسم الله الرحمن الرحيم

أمراض القلوب

الجمعة : 6/5/1422ه

إن الحمد لله

أيها المسلمون : في خضم مشغلات الحياة ، وتزاحم المغريات ، وطغيان الماديات ، وغلبة الأهواء ، يغفل كثير من الناس عن الأخذ بأسباب السعادة في الدنيا ، والفلاح في الآخرة ، واسمعوا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري ومسلم من حديث النعمان بشير رضي الله عنه إذ يقول « ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب » فإن لم يكن في القلب إلا توحيد الله ، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت حركات الجوارح ، وابتعدت عن المنكرات والقبائح ، وإن كان القلب مريضاً فاسداً ، قد استولى عليه اتباع الهوى ، وغلبه حب الشهوات ، فسدت حركات الجوارح ، وانبعثت إلى كل معصية ، ونشطت في كل ضلالة ، ولهذ قيل : القلب ملك الأعضاء ، والأعضاء جنوده .

قال ابن القيم رحمه الله : لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها ، انقسم القلب إلى ثلاثة اقسام : صحيح ، وسقيم ، وميت ، فالقلب الصحيح : هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى به قال تعالى ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فهو الذي قد سلم من كل شهوة ، تخالف أمر الله ونهيه ، ومن كل شبهة تعارض خبره ، فسلم من عبودية ما سواه ، وسلم من تحكيم غير رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما . بل قد خلصت عبوديته وعمله لله تعالى ، فإن أحب أحب في الله ، وإن أبغض أبغض في الله ، وإن أعطى ومنع فلله وحده ، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحاكم لكم من عادى رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون الحاكم عليه ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل امتثالاً لقوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾ لا تفتوا حتى يفتي هو ، ولا تقولوا حيى يقول هو ، ولا تتقدموا بين يدي أمر حتى تسمعوا كلامه هو صلى الله عليه وسلم .

والقلب الثاني : هو ضد هذا وهو القلب الميت : الذي لا يعرف ربه ، ولا يعبده بأمره ، فالهوى إمامه ، والشهوة قائده ، والجهل سائقه ، والغفلة مركبه ، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ، ومعاشرته سم ، ومجالسته هلاك .

والقلب الثالث : قلب له حياة ، وبه علة ، ففيه من محبة الله والإيمان به ما هو مادة حياته ، وفيه محبة الشهوات وإيثارها ، ما هو مادة هلاكه وعطبه ، وهو ممتحن بينهما .

فالقلب الأول : حي مخبت لين ، والثاني : يابس ميت ، والثالث مريض : فإما إلى السلامة أدنى ، أو إلى العطب أدنى .

روى الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسو الله صلى الله عليه وسلم « تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تعود القلوب على قلبين : قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموت والأرض » .

وصح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله ( القلوب أربعة : قلب أجرد ، فيه سراج مزهر ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب منكوس ، فذلك قلب المنافق ، عرف ثم أنكر ، وأبصر ثم عمي ، وقلب تمده مادتان ، مادة إيمان ، ومادة نفاق ، فهو لما غلب عليه منهما ).

أيها الناس : إن الفتن التي تعرض على القلوب ، هي أسباب مرضها ، وهي فتن الشهوات و الشبهات ، فتن الغي والضلال ، فتن المعاصي والبدع ، فتن الظلم والجهل ، وإذا فسد القلب فحدث ولا جناح ، عن العواقب السيئة ، التي تعود على الأفراد والأمم . فما حلت الضلالة ، وانتشرت الجهالة في أمر العقيدة والاتباع ، إلا بسبب أمراض القلوب ، التي أصبحت أوكاراً للشيطان ، وبؤراً للأهواء ، وما عمت المنكرات في الأفعال والأخلاق والأقوال إلا بسبب إقفار القلوب من طاعة الله ، وما شيوع الأمراض النفسية ، والتوترات العصبية ، والأسقام الاجتماعية ، وانتشار القلق والهموم ، إلا بسبب أمراض القلوب . فالله الله يامسلمون لنسعى جميعاً في إصلاح قلوبنا ، ولنبذل في سبيل ذلك وسعنا ، وقد قال ربنا « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » اللهم يامقلب القلوب ……

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على المصطفى ، وعلى آله وصحبه الأوفياء ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان و اقتفى . أما بعد

فيا أيها الناس : إتقوا الله تعالى ، وخذوا بأسباب إصلاح القلوب واتقوا مولاكم فهو علام الغيوب ، و ا علموا أن حياة القلب وصحته ، لا يحصل إلا بإقبال صاحبه على كتاب الله تلاوة وتدبراً ، ففيه الشفاء والنور ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ والإكثار من ذكر الله سبب لحياة القلوب ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ وكثرة الاستغفار والتوبة ، والاستعاذة من الشيطان الرجيم ، والبعد عن مصائده وحبائله من الملاهي ، وسائر المعاصي ، من أسباب حياة القلوب ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾

أصحاب القلوب الحية ، صائمون قائمون ، خاشعون قانتون ، شاكرون على النعماء ، صابرون في البأساء ، أمناء إذا ائتمنوا ، عادلون إذا حكموا ، منجزون ما وعدوا ، موفون إذا عاهدوا ، يغدوا أحدهم ويروح ، ويمسي ويصبح ، وفي أعماقه محاسبة لدقات قلبه ، وخلجات ضميره ، وبصر عينيه ، وسماع أذنيه ، وحركة يده ، وسير قدمه ، يعبد الله كأنه يراه ، فيمتلئ قلبه محبة لله ومعرفة، ومهابة وتعظيماً ، وأنساً وإجلالاً ، وخشية و إيماناً ، وطاعة ورجاءً . بواطنهم كظواهرهم بل أجلى ، سرائرهم كعلانيتهم بل أحلى ، همتهم عند الثريا بل أعلى .

أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ ، ولا تخيفها النذر ، ولا توقظها العبر ، قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه ، قرأت كتاب الله ولم تعمل به ، زعمت حب رسو الله صلى الله عليه وسلم وتركت سنته ، يريدون الجنة ولم يعملوا لها ، ويخافون من النار ولم يتقوها .

يا عجباً من الناس ، يبكون على من مات بدنه ، ولا يبكون على من مات قلبه ، شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا ، وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .

ألا فاتقوا الله وأصلحوا فساد قلوبكم فإن من خاف الوعيد ، قصر عليه البعيد ، ومن طال أمله ، ضعف عمله ، وكل ما هو آت قريب ، ألا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين ، وقلبت الليالي من سجلات السابقين ، وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين ، إنها الدنيا : العيش فيها مذموم ، والسرور فيها لا يدوم ، تغير صفاءها الآفات ، وتنوبها الفجيعات ، تفجع فيها الرزايا ، وتسوق أهلها المنايا ، قد تنكرت معالمها ، وانهارت عوالمها .