العدل والمساواة

العدل والمساواة - الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه جل وعلا والتزموا العدل في سائر الأمور، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ العدلُ تواطأتْ على حسنِه الشرائعُ الإلهيةُ، والعقولُ الحكيمةُ، والفطرُ السويةُ، ولقد دلتِ الأدلةُ الشرعيةُ وسننُ اللهِ في الأولينَ والآخرينَ، أن العدلَ دُعامةُ بقاءِ الأممِ، ومُستقرُ أساسات الدولِ، وباسطُ ظلالِ الأمنِ، ورافعُ أبنيةِ العزِّ والمجدِ، ولا يكونُ شيءٌ من ذلك بدونِه. فالقسطُ والعدلُ هو غايةُ الرسالاتِ السماويةِ كلِّها ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ

عباد الله: بالعدلِ قامتِ السمواتُ والأرضُ، وهو مفتاحُ الحقِ، وجامعُ الكلمةِ، ومؤلفُ القلوبِ،إذا قامَ في البلادِ عَمَّرَ، وإذا ارتفعَ عن الديارِ دمَّرَ. بالعدلِ يشتدُ أزرُ الضعيفِ ويقوى رجاؤُه، وبالعدلِ يهونُ أمرُ القويِّ وينقطعُ طمعُه، لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ.

عباد الله : عبارة نسمعها دائما، تتردد كثيرا على مسامع الناس من خلال اللقاءات والقنوات والمجالس، قولهم ((الإسلام دين العدل والمساواة)) فهل هي عبارة صحيحة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وينبغي أن نعرف الفرق بين العدل والمساواة، الآن كثير من الناس يقول: الإسلام دين المساواة، وهذا غلط، ليس في القرآن كلمة مساواة أو أن الناس سواء، في القرآن العدل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ﴾ وفرق بين العدل والمساواة، لو أخذنا بظاهر كلمة المساواة لقلنا: الذكر والأنثى سواء كما ينادى به الآن، لكن إذا قلنا العدل أعطينا الذكر ما يستحق والأنثى ما تستحق. والعجيب أنه لم يأت في الكتاب، ولا في السنة لفظة «المساواة» مثبتاً؛ ولا أن الله أمر بها؛ ولا رغب فيها؛ لأنك إذا قلت بالمساواة استوى الفاسق والعدل؛ والكافر والمؤمن؛ والذكر والأنثى؛ لكن جاء دين الإسلام بكلمة هي خير من كلمة «المساواة»؛ وليس فيها احتمال أبداً، وهي «العدل»، وتعني أن يسوى بين المتماثلين، ويفرق بين المفترقين؛ لأن «العدل» إعطاء كل شيء ما يستحقه. وكذب على الإسلام مَن قال : إن دين الإسلام دين المساواة، بل دين الإسلام دين العدل وهو الجمع بين المتساوين والتفريق بين المفترقين .

عباد الله : إليكم أدلة من كتاب الله ومن سنة مصطفاه على بطلان المساواة بين المختلفين، فالله عز وجل فضل بعض رسله على بعض ولم يساوي بينهم قال تعالى ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ وفضل بعض الصحابة على بعض فقال تعالى ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ وقال سبحانه ﴿لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ وفرق سبحانه بين العلماء والجهال فقال سبحانه ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ وقال سبحانه ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ وفرق بين الناس في الآخرة ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ وقال ﴿أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وفرق سبحانه بين المتبع والجاحد فقال سبحانه ﴿أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وقال عز وجل ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وفرق سبحانه بين المتقين الفجار فقال سبحانه ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وقال عز وجل ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ وفرق بين المؤمنين والفساق فقال ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ﴾ ولم يساوي الله بين مخلوقاته المختلفة فقال تعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ وقال تعالى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ﴾ وقال تعالى ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ فالدين قائم على العدل لا على مساواة المختلفات.....

العدل والمساواة - الخطبة الثانية

الحمد لله

فلقد فضل الله جنس الرجال على النساء خلاف ما يدعيه ويطالب به البعض فقال سبحانه ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ وقال سبحانه ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ بل لم يساوي الله بين الرجل والمرأة في الميراث فقال سبحانه ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ بل فضل الله بعض الثمار على بعض ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾ وفضل الله بعض عباده على بعض في الرزق ﴿وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ﴾ وفضل الله بعض الأمكنة كمكة والمدينة وبعض الأزمن كرمضان.

ومما يدل على أن الشرع يرسخ في اتباعه العدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله واعْدِلُوا بَيْنَ أَولادكم» متفق عليه ولم يقل ساووا. وقال عليه الصلاة والسلام «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل ... الحديث رواه مسلم . وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» وكَانَ يُقسّم بَين نِسائهِ فَيعدل وَيَقُول «اللّهُمَ هَذه قِسمَتي فِيمَا أملُك فَلا تلُمني فِيما تَملك ولا أملك»...