غلاء الأسعار

غلاء الأسعار - الخطبة الأولى

تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِي عَلَى اللهِ خَالِقِي *** وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ لاشَكَّ رَازِقِيِ

وَمَايَكُ مِنْ رِزْقٍ فَلَيْسَ يُفَوُتُنِي *** وَلَوْ كَانَ فِي قاع البِحَارِ الْعَوامِقِ

إن أَكْثَر مَا يَشْغَلُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الأيام ،وَيَأْخُذُ اِهْتِمَامَهُمْ ،هو همُّ الرزق وتوفيره، وطرقُ الحصول عليه والخوفُ من زواله، وكأن شبحَ الفقر قادم، والجوعَ قد ضرب أطنابه ، وتناسى أولئك أن الله قد خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وقسم أرزاقهم فلم ينس منهم أحدًا ، ذكر الرزق وأنه بيده في أكثر من آية في كتابه ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ وذكر الفقر في آية واحدة ، وبين أنه من تخويف الشيطان ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخش الفقر على أمته حيث قال «أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ، فو اللَّهِ ما الفقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ».

عباد الله : طلبُ الرزق ،والسعيُ في تحصيله، مطلبٌ شرعي ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ ولطلب الرزق أسبابا وأبوابا من أهمها : الإيمان بالله وتقواه، قال سبحانه ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وقال تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ يجعل له فرَجاً من كل شدة ، ويسوق إليه الرزق من وجه لا يتوقعه .

ومن الأسباب : الاستغفار والتوبة : يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً

ومن أسباب سعة الرزق : ترك المعاصي والاستقامة على دين الله والعمل بالطاعة قال تعالى ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً

ومن الأسباب : التوكل على الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً» والتوكل على الله تعالى لا يقتضي ترك الأخذ بالأسباب

ومن أسباب سعة الرزق : صلة الرحم : فعند أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال، منسأةٌ في العمر»

ومن الأسباب : المتابعة بين الحج والعمرة : فعن ابن مسعود قال: قال رسول الله «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» رواه الترمذي

ومن أسباب سعة الرزق : اللجوء إلى الله عند الفاقة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» رواه الترمذي

والدعاء من أعظم ما يستجلب به الرزق ، قال صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك قال : بلى يا رسول الله ، قال : قل إذا أصبحت وأمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» قال : فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني" رواه أبو داود

ومن الأسباب : الزواج فقد قال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وكان عمر بن الخطاب يقول: عجباً لمن لم يلتمس الغنى في النكاح.

فاتقوا الله عباد الله ولا يستخفنكم أعداءُ هذه البلاد، الساعون لدمارها ، فسيجتهدون بكل وسيلة؛ لإيغال صدوركم على ولاة أمركم، وسيستغلون هذه الأحداث ؛ للوقيعة بينكم وبينهم ، فعليكم الحذر، فإنما هذا بإذن الله أمر عارض ، وشدة لن تدوم ، والزموا الدعاء والصبر، فقد قال عليه الصلاة والسلام «اصبروا حتى تلقوني على الحوض».

غلاء الأسعار - الخطبة الثانية

الحمد لله :

ولأن في المحن منحا ،وفي المصائب معتبرا ، فعسى أن يكون في هذه المتغيرات ؛ وقفةَ تأمل ومحاسبةً لأنفسنا ،فكم اقترفنا من المعاصي ،وكم فرطنا في جنب الله ،ولنتذكر قول الله تعالى ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون

عسى أن يكون فيها كبحا لجماح المتظاهرين زروا بالغناء، المتلبسين كذبا بدثار الثراء، ما إن تأتي الإجازة إلا وييمم أحدهم وجه، شطر دولة شرقية أو غربية ، إسلامية أو غير إسلامية، ينفق فيها ماله ، ويتعب فيها جسده، وربما فرط في شيء من دينه، ثم اذا خويت جيوبهم، ونفدت نقودهم، وكلت أقدامهم ، رجعوا قائلين الراتب لا يكفي الحاجة. مع أنه ينفق في إجازة واحدة أضعاف ما فُرض عليه من زيادات خلال عام كامل.

عسى أن يكون فيها تأديبا لأهل المظاهر الكاذبة الجوفاء ،الذين يتزاحمون في الأسواق ، لشراء جديد الجوالات، وما طاب من غالي الماركات ، يتسابقون إليها برغم عدم حاجتهم لها، ولا قدرتهم عليها، ولكن ليقال ذاك عند فلانة.

عسى أن يكون فيها تربيةً لأهل البطون الخاوية، الذين ما تركوا مطعما إلا دخلوه، ولا أكلة ألا جربوها، فاليوم أكلة صينية، وغدا إيطالية، هجروا طبخ البيوت ، فخسروا الأموال، وتعرضوا للأمراض.

عسى أن يكون فيها إيقاظا لأهل البذخ والاسراف، في الولائم والأعراس ، اولئك الذين زعموا انهم غلبوا حاتما في الكرم، فتراه يدعوا شخصا واحدا ،فينحر الإبل ، ويضع حولها الخراف، وفي احشائها الطيور، ثم بعتذر بعد ذلك عن التقصير، ويلقي بقية الأكل في مكبات الزبائل ، في كفر صريح بالنعمة وبطر بالمال.

عسى ان يكون فيها تربيةً لمن أفرط في تربية الأبناء ، فظنها في توفير كل المطالب، فما إن يبدأ طفلُه في أولى الخطوات ، حتى يوفر له جوالا ، ينفق الغالي لشرائه، ثم يعاني من تسديد فواتيره ، وما إن يبلغ الحلم حتى يشتري له سيارة لا لحاجة، لكنها المجاراة للأقران.

عسى أن يكون في هذه الأزمنة شحذا لهمم الشباب، الذين لا همّ لأكثرهم إلا نعومة أجسامهم ، وقصات شعورهم، وأطقم أنديتهم، توجهوا للعمل الحر يا شباب، واقصدوا الأسواق ، تاجروا فيما أحل الله ، وليكن قدوتكم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، حينما خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة ، تاركا خلفه أمواله وليس معه شيء ، فقال دلوني على السوق فاشترى و باع حتى أصبح من أغنى أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، فانفضوا غبار الكسل ، وبادروا بالعمل ، وخففوا عن آبائكم تكاليف الحياة.