الغفلة أسبابها وعلاجها

الغفلة أسبابها وعلاجها - الخطبة الأولى

اعلموا أن العمر قصير، والحياة مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاع الحياة الدنيا قليل، فكم ممن كانوا معنا يأكلون ويشربون، ويتمتعون ويتلذذون، رحلوا إلى دار البقاء، وحملوا معهم ما قدموا من الأعمال، ولو نظرنا إلى حالنا لوجدنا أنفسنا في غفلة كبيرة، وبعد عظيم عن الآخرة، نعلم حال الدنيا ونحن بها متعلقون ، ونعلم أن مآلنا إلى الآخرة  لكننا فيها زاهدون ، وعلى الرغم من علمنا بأن وعد الله حق، وأن الموت حق، وأن الساعة حق، وأننا مبعوثون إلى ميقات يوم معلوم، وموقوفون بين يدي علام الغيوب، وسيسألنا عن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل نقير وقطمير ، إلا أننا لا نجد الكثيرين يتزودون لدار المقام، يقول الله تعالى ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾.

عباد الله : داء الغفلة داء خطير ، وأثره كبير ، وهو سبب في دخول النار ،قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

عباد الله:  من غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون، ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين، وقلبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ فها هو الموت يتخطف الأرواح من أجسادها، ففي أي مكان تلقى مصيرها، نائمة مستيقظة، لاهية أو عابدة ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فويل للغافلين المغترين بحلم الله، يأمنون الدنيا وهي غرارة، ويثقون بها وهي مكارة، ويركنون إليها وهي غدارة ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ فأين أصحاب الغفلة من أيامهم التي تمضي؟ وأعمارهم التي تفوت، وأبدانهم التي تبلى، فكل صغير يكبر، وكل كبير يموت، وكل أول له آخر، فالحياة كلها لحظات.

عباد الله: سارعوا إلى ما يصلح قلوبكم ، فإن القلب إذا صلح أحب ربه، وبادر إلى طاعته، وسارع إلى ما يرضيه، سعادته فيما يقربه إليه، وحزنه فيما يبعده عنه، لا يهنأ إلا بمناجاته وشكره، السعادة عنده هي الحصول على بغيته، وبغيته هي الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً﴾.

عباد الله:إن الغفلة داء عضال، ومرض فتاك، أهلك الماضين، وأوقع الأحياء في بعد عن التزود ليوم الدين، صرف الكثيرين عن ربهم، سهوا عن طلب النجاة لأنفسهم، وغفلوا عن التزود للقاء ربهم، فاستيقظوا من غفلتهم، وهم موسدون في قبورهم، مرتهنون بأعمالهم  ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾.

الغفلة جهل العبد بعظمة خالقه، وإعراضه عنه، وانصرافه عن طاعته، وتعلقه بغيره، وانكبابه على شهواته وملذاته، وتقديم نفسه على ما يرضي ربه، وحرصه على دنياه، وسعيه على جمع حطامها، وصدق الله العظيم ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ فتجده مفرطاً في الصلوات، مضيعاً للنوافل والقربات، إن قام إلى الصلاة قام متكاسلا ، وإن أدى الزكاة أداها على نفسه متحاملا، لسانه عن الله غافلاً ، بالقيل والقال لاهياً ، يفرح بمعصية الله، ويغضب إذا نُصح في الله.

عباد الله: ومن الغفلة: التقصير في حقوق العباد، فلا يصل رحمه، ولا يزور جاره، ولا يعود مريضاً، ولا يبش في وجوه إخوانه، تجده قاسياً في معاملته، باخلاً عن البذل لإخوانه، يبادر إلى الإساءة وينتظر الإحسان، همه نفسه وهو لنفسه مضيعٌ. فكيف يعيش هنيئاً من طال بعده عن الله، وكيف يعيش سعيداً من هجر محبة الله، وكيف يرتاح من شكا همه وغمه لغير الله؟

الغفلة أسبابها وعلاجها - الخطبة الثانية

الحمد لله:

عباد الله : للغفلة أسباب ، منها طول الأمل ،فلا آفة أعظم منه، قال علي بن أبي طالب: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وعن الحسن قال: ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل، ومن كلام الحكماء: إيّاكم وطول الأمل فإنّ من ألهاه أمله أخزاه عمله.

ومن أسباب الغفلة : حب الدنيا وإيثارها على الآخرة، قال تعالى مخبراً عن أهل الغفلة ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ فمعرفة أمور الدنيا وعلومها هو أمر محمود، ولكن الاكتفاء به، والإكثار منه، بحيث يؤدي ذلك إلى الغفلة عن الآخرة هو المذموم. قال سلمان الفارسي: عجبت من ثلاثة: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وضاحك بملء فيه لا يدري أربه راض عنه أم ساخط عليه، وغافل ليس بمغفول عنه. فليتفكر العبد في هذا، وليعلم أنه لا يعالجه من هذه الغفلة إلا أن يكسر قسوة قلبه بأن يرى الأموات يغسلون، ويرى الأموات يكفنون، ويقف عند المقابر، ويزور المرضى، وينظر أحوال أصحاب العاهات الذين سلبت منهم العافية، ليعرف حاله وأن ما أصابهم ليس ببعيد أن يصيبه.

 ومن أسباب الغفلة الجهل بمعرفة الغاية التي خلقنا من أجلها، قال الله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ ومن أعظم مايزيل الغفلة طلب العلم الشرعي ، فهو لصاحبه دواء.

فيا حليف النوم والوسادة، يا أسير الشهوات وقد نسي مَعَادَه، يا قليل الزاد مع قُربِ مماته، أما آن لك أن تفِيق من تلك الرُقَادة، لقد ربح القوم وأنت نائم، وَخِبْتَ ورجعوا بالغنائم، يا مَنْ شاب وما تاب، أموقنٌ أنت أم مُرْتاب، يا مَنْ كلما طال عمره زاد ذنبه، يا مَنْ كلما ابيض شَعْرُه اسوَّدَ بالآثام قلبه. يا مَنْ ضيَّعَ عمرَه في غير طاعة، يا مَنْ بضاعته التسويف والتفريط فَبِئْسَت البضاعة، إلى متى هذا التسويف، ولا ينفعُ فيك وعظٌ ولا تعنيف، إذا وُعِظت لم تنتفع، وإذا رُدِعْتَ لم ترتدع، هذا كتاب الله لو أُنزل على جبلٍ رأيته يتصدع، ومع ذلك فلا قلبٌ لك يخشع ، ولا عينُ تدمع، أين الخشوع والخضوع ، أين التوبةُ والرجوع.