قصة سليمان وبلقيس

قصة سليمان وبلقيس - الخطبة الأولى

الحمد للهِ معزِ أوليائِه بنصره، ومذلِ أعدائِه بقهره، ومصرفِ الأمورِ بأمره، ومديمِ النعم بشكره ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كله، ولو كره المشركون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد ..

قال تعالى على لسان سليمان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ أخبر سليمان بنعم الله عليه، فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان، وكان حريصًا على إتقان العمل والإشراف عليه، وذات يوم جاء ليتفقَّد الطيور، فلم يجد الهدهد من بينهم. فقال ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ يعني بعذر واضح بين . فلما جاء الهدهد إلى سليمان ليُقدِّم له سببَ غيابه عن العمل، قال: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ قال سليمان: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فكتب كتابا وأعطاه الهدهد وقال ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ وكان نص الكتاب ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ فلا تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني، وانقادوا لأوامري وأقبلوا إلي مسلمين، فجمعت بلقيس كبار قومها وقالت ﴿يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ وقرأت عليهم كتاب سليمان ثم قالت ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ أي: أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ فما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ فنحن على استعداد للحرب، ورهن الإشارة، لننجز المهمة، ولكن الملكة كانت أكثر حكمة من رؤساء قومها؛ وقالت لهم ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ قتلا وأسرا ونهبا لأموالها، وتخريبا لديارها، وَجَعَلُوا أشراف الناس من الأذلين، وقصدوا من فيها من الولاة والجنود، فأهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل أو بالأسر، فأمر حربه رأي غير سديد، وقرَّرت أن تلجأ إلى اللين، وتُرسِل إلى سليمان بهدية، وقالت ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا . قال قتادة : رحمها الله ورضي عنها، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس . وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه .

وصلت الهدية إلى سليمان، فأدرك غايتها وفهم مرادها، ونادى سليمان في مملكته أن يُحشَد الجيش، قبل وصول وفد بلقيس فقد أراد استعراض قوته، ليرهب عدوه، وهي مشابهة لما تقوم به بعض الجيوش اليوم من مناورات عسكرية، ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدجَّجة بالسلاح، وأدركوا أنهم أمام جيش لا يُقاوَم. فقدَّموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد، وكانت الهدية من الذهب وأغلى المجوهرات، فنظر سليمان إلى هدية الملكة، وأشاح ببصره؛ وقال ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ أتصانعونني بمال لأترككم على الشرك؟! فما آتاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ فأنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف. وأفهم السفراء أنه لا يقبل هديتهم وقال ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ وبعد وصول رسل بلقيس إلى سبأ هُرعوا إلى الملكة، وهم بتراب السفر وحدَّثوها بأن بلادهم في أزمة، حدَّثوها عن قوة سليمان، واستحالة صد جيشه، وأفهموها أنها ينبغي لها أن تذهب إليه، فدخول الحرب معه معركة خاسرة.

فاللهم ...............

قصة سليمان وبلقيس - الخطبة الثانية

الحمد لله:

علم سليمان بمقدم بلقيس إليه، فالتفت لرجاله وقال ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ قبل أن يسلموا فتحرم علي أموالهم بإسلامهم ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ قيل كان سليمان في الشام وعرش الملكة في اليمن. فقال سليمان، عليه السلام : أريد أعجل من ذلك . لأنه كان يريد إظهار عظمة ما وهبه الله له من الملك، وما سخر له من الجنود، الذي لم يعطه أحد قبله، ولا يكون لأحد من بعده . وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها ; لأن هذا أمر خارق، أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه . هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ قال ابن عباس: الذي عنده علم من الكتاب اسمه آصف وهو كاتب سليمان، وقال بعض المفسرين: هو رجل عالم صالح عند سليمان، وكان يعرف اسم الله الأعظم، قال وهب بن منبه : امدد بصرك، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به . فلما جيء بالعرش، أمر سليمان بإجراء بعض التغييرات عليه ليمتَحِن بلقيس ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أدركت أن هذا هو عرشها سبقها إلى المجيء، ولا يملك ذلك إلا من أوتي المعجزات، قال تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ أمرت أن تدخل لترى ملكا هو أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة، أي ظنته ماء ستخوض فيه، وكشفت عن ساقيها، فقيل لها : إنه صرح ممرد من قوارير. ثم انبهرت بما شاهدته من إيمان سليمان وصِلته بالله، ثم انبهرت بما رأته من تَقدُّمه في الصناعات والفنون والعلوم، ورأت عقيدة قومِها تتهاوى أمام سليمان، وأدركتْ أن الشمس التي يعبدها قومُها ليست إلا مخلوقًا، خلقه الله تعالى وسخَّره للعباد، فلما وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله. فلما شاهدت ما شاهدت، أدركت أنها تُواجِه أعظم ملوك الأرض، أحد أنبياء الله الكرام . وتيقنت نبوته ورسالته فتابت ورجعت عن كفرها و قَالَتْ ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ اعترفت بظلمها لنفسها، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وتَبِعها قومُها على الإسلام.

عباد الله: قص الله علينا القصص في القرآن، للاعتبار وإليكم شيئا من الفوائد المستنبطة من هذه القصة:

فمنها: أهمية تفقد القائد رجال دولته، وتأكده من قيام بكل منهم بما عليه من الأمانة، ومحاسبة المقصر بعد التأكد من تقصيره.

ومنها: عدم الاغترار بالقوة وكثرة النعم بل الواجب نسبتها إلى مسديها سبحانه.

ومنها: هم الداعية هداية الناس، وليس السعي خلف حكام الدنيا وزينتها.

ومنها: الأنبياء لا يعلمون الغيب ودينهم الإسلام.

ومنها: غيرة الهدهد على التوحيد بخلاف بعض الناس اليوم.

ومنها: قال بعض العلماء أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم هو سليمان.

ومنها: أهمية استشارة الملك عقلاء قومه، وليس الأمر متروكا للتصويت لعامة الناس.

ومنها: التقدم المعماري والهندسي في زمن سليمان عليه السلام.

ومنها: رجاحة عقل بلقيس حيث جنبت بلادها دمار الحرب، بعكس بعض دعاة الثورات اليوم الذين يدمرون بلادهم ويسمونها ظلما بالربيع العربي.