طوبى للغرباء

طوبى للغرباء - الخطبة الأولى

 

عندما بُعث صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، كان الناس في جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسما، ولا تقيم به حكما، بل تنتحل ما كانت عليه آباؤها، وما استحسنه أسلافُها، فقام فيهم صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فسُرعان ما عارضوا وكذبوه، ورموه بالبهتان تارة، وبالجنون والكِهانة تارة أخرى، ونصبوا له العداوة، ورموه بسهام القطيعة، وصار أهلُ السلم كلُّهم حربا عليه، وعاداه الولي الحميم، فكان غريبا في أهله، شريدا في دياره، طريدا بين قومه، ثم بعد ذلك أظهر الله دينه وأعلى كلمته، ونصر جنده، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعودة الدين غريبا كما بدأ. فقال عليه الصلاة والسلام «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» وهم «قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ ِمَّن يُطيعهم».

أيها المسلمون : أهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة في أهل العلم غرباء، والداعون إليها من أهل السنة الصابرون على أذى المخالفين غرباء، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا، وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» رواه أبو داود. قال أحمد الأنطاكي : أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً.

عباد الله: إن من أشد ما يبتلى به الغرباء فتن الشبهات، التي يبثها الأعداء، ويؤازرهم بعض المنتسبين إلى الإسلام، يشككون في مسلمات الدين، وأحكام رب العالمين، ويطعنون في التوحيد، ويشككون في الاتباع، ويسقطون العلماء، ويبرزون الجهال والرعاع.

وكذا فتنة الشهوات: تلك الفتنة التي تنتشر في عصور الغربة، وقلة أهل الحق، وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ حيث أجلب إبليس وأعوانه من شياطين الإنس علينا بخيله ورجله، فامتطوا صهوة الثورة التقنية، لفتح أبواب الفواحش والشهوات عبر القنوات الفضائية والشبكات، فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله

ومن الفتن التي قد تعتري صاحب السنة، فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء، وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى، وإقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم معظمين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله.

ومما يبتلى به الغرباء: فتنة العجلة، وقلة الصبر على الأذى في الغربة: قال ابن القيم رحمه الله: إذا أراد المؤمن الذي رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهاً في سنة رسوله، وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه ؛ من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم؛ الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وازدرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلونه مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: المتمسك بالسنة غريب في دينه لفساد أديان مخالفيه، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر عندهم معروف. فاللهم.....................

طوبى للغرباء - الخطبة الثانية

 

الحمد لله:

الغرباء هم الّذينَ يَصْلحُونَ إذا فَسَدَ النّاسُ، فهم أهلُ استقامة دائمة لا تنفك عنهم، ولا تنقطع إلا بموتهم، وهم أهل تمسك بسنة نبيهم ونهج صحابته والتابعين ومن تبعهم من الأئمة المهديين فإذا تغيرت الأحوالُ والتبست الأمورُ وقلَّ أهلُ الخير ثبتوا هم على الحق واستقاموا على دين الله، ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة، واستقاموا على الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر أمور الدين، هؤلاء هم الغرباء، وهم الذين قال الله فيهم ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾ فيا عبدالله أتود أن تكون في طريقٍ رفيقك فيه محمد صلى الله عليه وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيون؛ طريق سار فيه أبو بكر وعمر وعثمان علي، وسائر الصحابة والتابعون، أم تكون في طريق رفيقك فيه مبتدع وزنديق، ودعاة ضلالة، وأدعياء صلاح، وسفاكوا دماء بغير حق، وخوارج مارقين وأحزاب ضالين. فلا والله لا يستوون. فاسلك طريق محمد؛ ولا تستوحش لقلة السالكين؛ و إياك و طريق الباطل و لا تغتر بكثرة الهالكين.

الغرباء هم المتمسكون بالسنة إذا رغب الناس عنها. وهم المحققون للتوحيد وإن أنكر أكثر الناس ذلك. هؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً وأكثر الناس لائم لهم. نعم إنهم غرباء وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن اليهود انقسمت إلى إحدى وسبعين فرقة والنصارى انقسمت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وتنقسم هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.

فَيَا مِحْنَةَ الإسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ *** وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ

وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إنْ كُنْتَ حَازِمًا *** عَلَى الدِّينِ فَاصْبِرْ صَبْرَ أَهْلِ الْعَزَائِمِ

فَمَنْ يَتَمَسَّكْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي *** أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ

لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ امْرَأً مِنْ ذَوِي الْهُدَى *** مِنَ الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ

فَنُحْ وَابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا *** إلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ

لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا عَفَتْ *** مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ

وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ وَالآلِ كُلِّهِمْ *** وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْمَكَارِمِ