العجلة

بسم الله الرحمن الرحيم

العجلة وآثارها

 الجمعة : 13/10/1422هـ

الحمد لله

فإن العجلة في الأمور التي ينبغي التريث فيها ، من الصفات المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها . قال الراغب : ( العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه وهو من مقتضى الشهوة فلذلك صارت مذمومة في عامة القران حتى قيل العجلة من الشيطان ).

قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن يتخلق بأخلاقه ويتأدب بآدابه ، لذلك التزم بهذا التوجيه المبارك ، فلم يكن يستعجل ـ بل كان يتأتى ويصبر وإلى هذا أرشد أمته . وقال الله له أيضاً ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ فكان صلى الله عليه وسلم وهو القدوة المثلى ، أولى الخلق التزاماً بهذا الأمر . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : « يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ، فقال : لقد لقيتعائشة من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبد ياليل فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً » .

أما المسارعة إلى فعل الخيرات والمبادرة إليها وانتهاز الفرص إذا حانت فإن ذلك محمود وليس بمذموم . قال تعالى : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ . وقال موسى عليه السلام : ( وعجلت إليك رب لترضى ) . وقال صلى الله عليه وسلم « ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار » وقال صلى الله عليه وسلم « السفر قطعة من العذاب ، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه ، فليعجل إلى أهله »

لأن العجلة المذمومة ، هي القطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة والاستخارة ، ولهذا قال أبو حاتم البستي - رحمه الله -: إن العجل يقول قبل أن يعلم ، ويجيب قبل أن يفهم ، ويحمد قبل أن يجرب ، ويذم بعد ما يحمد ، والعجل تصحبه الندامة ، وتعتزله السلامة ، وكانت العرب تسميها أم الندامات .

قال الشاعر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

ومن الأمثلة على العجلة المذمومة : الاستعجال بالدعاء على الأهل ، والمال والولد عند الغضب ، قال تعالى : ﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾ . وعن جابر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم « لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أموالكم ، ولا تدعوا على أولادكم ، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم » .

ومنها استعجال المرء إجابة دعائه فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي ».

ومنها استعجال بعض المصلين في صلاتهم فلا يتمون ركوعها ولا سجودها ولا يطمئنون فيها وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً صلى عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « ارجع فصل فإنك لم تصل ، ثلاث مرات في كل مرة يقول له ذلك ».

ثم قال له : « إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً …» .

الخطبة الثانية:

وفي واقعنا نرى صوراً من الاستعجال المذموم : فمن ذلك استعجال بعضهم في أمور الطلاق ، فتجدها لفظة دارجة على لسانه ، يطلق الرجل زوجته ، فتتشتت الأسرة ، ويضيع الأطفال ، وتهدم البيوت ويقع من الهم والغم ما الله به عليهم .

ومنها العجلة في قيادة السيارات وما نسمعه من الحوادث المروعة التي كانت سبباً لإزهاق نفوس كثيرة ، وأمراض خطيرة ، وعاهات مزمنة ، إلا بسبب العجلة . كم من شاب تحمس بتشجيع أصحابه فسابق الموت بسيارته ، فكان الموت أسرع منه ، وكم من شاب استعجل تحصيل لذاته ، فوقع في فاحشة الزنى واللواط ، فكان عاقبة أمره خسراً ، وكان ذلك سبباً في غرقه في مستنقع الرذيلة والأمراض ، وكم من أبٍ استعجل في زواج ابنته دون تريث وتثبت ، فسام الزوج ابنته سوء العذاب ، وكم من مغرور بقوته أوقعه الشيطان في شراكه ، فأوقعه في شجار نتج عنه عاهة مستديمة ، أو جراحة أليمة ، أو سجن طويل ، وربما وصل الأمر إلى الموت .

وكم من مستبطئ للرزق ، فيطلبه من طرق محرمة ووجوه غير مشروعة فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم « إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية ، فإن الله تعلى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ».

ومنها الاستعجال في نتائج الدعوة إلى الله ، فإن البعض يستعجل نتيجة جهوده ، وربما غلبه اليأس حتى يتخلى عن هذا الطريق . ومنها الاستعجال في الفتوى ، فالجرأة على الفتوى ، والخوض في أمور الشرع ، لم تعد قاصرة على أنصاف المتعلمين ، حتى نصب بعض العامة أنفسهم مفتين ، بل تعدى الأمر إلى السفهاء ، وبعض الصحفيين والإعلاميين .

ومنها الاستعجال في الحكم على الأشخاص ، وعلى رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ومنها التحديث بكل ما سمع ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ) ما أسرع سريان الإشاعات ، وما أفتك أثر الدعايات ، خبر تتناقله الأنباء والوكالات ، ويصبح حديث المجالس والمناسبات ، وإذا تأمل المحققون ، ودقق المتحرون ، وجدوه كخبر موت شارون . إشاعات باطلة ، ونقل بلا تثبت .

و المصطفى صلى الله عليه وسلم يهدي أمته فيقول « إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه » بل يؤكد صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير « إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه » ويحذر صلى الله عليه وسلم من فقد الرفق « من يحرم الرفق يحرم الخير »

وتشد الحاجة للحلم حين تستأثر المشاعر ، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين ، وحين تشعر النفوس بالضيم ، فتتطلع للانتصار ، وحين يشيع المنكر ، فترتفع أسهم الغيرة لدين الله ، فحين ذاك يجب أن تضبط التصرفات ، بميزان صريح النقل ، وأن تحكم بصحيح العقل ، وأن تحلى بالحلم ، وأن تجمل بالرفق ، وعلى المسلمين أن يعلموا ؛ أن الاستفزاز قديم ، وأن العاقبة للمتقين . ولا يعني الحلم تبلد الإحساس ، ولا موت المشاعر ، ولا إضاعة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا القعود عن نصرة المظلومين ، والبراءة من الكافرين ، ولكنه تريث وتعقل في الحركات ، وتأنٍ في التصرفات ، ونظر محمود في العواقب ، وتقدير للمصالح والمفاسد ، إنه كبح جماح النفس والهوى ، واستشارة لألي الأحلام النهى ، ووقوف عند أقوال العلماء.