ويل للمطففين

ويل للمطففين - الخطبة الأولى

 

فيقول الله عز وجل ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ قال الإمام مالك رحمه الله: كان يقال في كل شيء وفاء وتطفيف. فالمطففون هم الذين يأخذون الذي لهم مما وُعدوا به أو كان حقّا لهم، ثم إذا جاء الحق الذي عليهم طففوا، ويل لهم.

وأعظم التطفيف يا عباد الله: التطفيف في حق الله عز وجل، فإنّ الناس يكتالون من الله ويستوفون، يطعمهم ويسقيهم ،يشفيهم ويعافيهم، ويميتهم ثم يحييهم، .يستوفون كل شيء، يشربون ويأكلون من رزقه ، ينعمون بالأمن على أرضه، ويتنفسون هواءه، ويتقلبون في نعمه، فإذا جاء الحق الذي له طفّفوا، إلا من رحم الله. وأعظم التطفيف الإشراك في عبادة الله عز وجل. ومن التطفيف في حقه سبحانه عدم القيام بأمره من الولاء والبراء فيه، والجهاد والهجرة لأجله، وتعظيم أوامره واجتناب مناهيه.

عباد الله ويل للمطففين في حق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو الذي قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح وعلّم وجاهد وبذل المجهود من نفسه ومن دمه ومن ماله ومن وقته، وما مات وإلا وقد تركنا على البيضاء؛ فهل قدمنا أمره وقوله على أهوائنا ، هل نغضب إذا قُدِّمت الآراء والأقيسة والأهواء والأفكار والعادات على أمره؟ هل نغضب كما غضب ابن عباس قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر! هل قمنا بحقه ومحبته واقتفاء أثره ونشر سننته والعض عليها بالنواجذ ، وهل علمنا أبناءنا سيرته –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-؟

ويل للمطففين في حق أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم والله قد أدوا كل الذي عليهم، ، فقد شهدوا التنزيل وشهدوا التأويل وعلموا ونصحوا وجاهدوا وبذلوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- وقد اكتلت منهم واستوفيت ؛ فماذا فعلنا في حقهم؟ هل نغضب لهم؟ هل نتحاكم إلى فهمهم وإلى نقلهم وإلى طريقتهم وسمتهم كما أوصنا النبي –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ؟ هل نلهج بذكرهم ونعلّم الناس ذلك؟ هل نغضب إذا سُبّ أحدهم؟ هل تتمعّر وجوهنا إذا انتهكت أعراضهم؟ هل نتبرّأ ممن تبرأ منهم ونعادي من عاداهم.

عباد الله : ويل للمطففين في حق العلماء؛ علماء الإسلام، يوم كان الناس يشتغلون بلهوهم وتجاراتهم وهم قد اشتغلوا بتعلّم العلم، لا يريدون دنيا ولا شهادة ولا جاه، يريدون أن يحفظوا على أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دينها وميراثها - لا يعرفون ببدع ولا يعرفون بشهوات، ولا يعرفون بشذوذات، وإنما يقومون في الناس مقام الأنبياء، قد رسخوا في العلم، ألم تكتل منهم وتستوفي فماذا فعلت بحقهم؟ إن من حقهم علينا أن نحبهم ونجلهم، ونذب عن أعراضهم ، ونجمع الناس عليهم، ونعلم إن القدح في العلماء فساد الدين.

ويل للمطففين في حق التوحيد في هـذه البلاد ، فبنوره أضاءت ، وببركته أمنت ، فتح الله لنا به باب الأرزاق ، فماذا عملنا في حقه، هل قمنا به حق القيام ، هل أديناه بالتمام، هل تعلمناه وعظمناه، وعلمناه ولزمناه. أم أننا نوالي أهل البدع، وننصر أهل الأهواء.

ويل للمطففين في الصلاة، قال سلمان الفارسي: الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف في الصلاة فقد سمعتم ما قال الله في المطففين، ويل لمن طفّف في الصلاة في خشوعها وركوعها وطمأنينتها ومواقيتها وجماعتها.

ويل لمن طفف في حقوق والديه ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ فكم تعبوا سهروا ،كم تألموا وتحملوا، فإذا جاء حقهم وأرادوه ، قصّرت في حقهم وتجاهلته، أف لمن يبرّ صديقه ويجفو أباه، أف لمن يبر زوجته ويجفو أمه، آهات الآباء تتعالى ، وآلام الأمهات تتوالى، والسبب عقوق الأبناء ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

ويل لمن طفف في حقوق أولاده، فلم يأمرهم بالصلاة ولا بالقرآن، ولم يربهم على البر والإحسان، بل تركهم للقنوات والشاشات، والمواقع الماجنة والشاتات.

ويل لمن طفف في حقوق أقاربه وأرحامه ، وجيرانه وعماله، ويل لمن طفف في وظيفته يستوفي حقه في أخذ مرتبه، ولا يؤدي ما اؤتمن عليه من العمل، تراه متثاقلا في أنجاز معاملات الناس، استباح لنفسه أخذ الرشوة وسماها هدية

ويل للمطففين - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يوم يكون العرق يرشح إلى أنصاف الساقين، وإلى الحقوين، وإلى الثديين، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاما، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فيسألون عن كل كبيرة وصغيرة، تذكر ذلك اليوم إذا أردت أن تستوفي حقك وتطفف في حق غيرك.

رُوي أن المهدي دخل مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام له من في المسجد إلا محمد بن أبي ذئب رحمه الله ، فلما وقفوا عليه قالت الشرط: لِمَ لم تقم لأمير المؤمنين؟ قال: لما رأيت قيام الناس ذكرت قول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذا جاء للفصل بينهم، فقال المهدي: دعوه فو الله لقد وقفت كل شعرة من جسدي من هـذا الكلام.

قال الله بعد هـذه الآيات ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ ويل لهم، أليس هـذا غاية التطفيف، القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يجعل كأساطير الأولين، غاية التطفيف يوم يجعل الوحي ، كقصص البشر وأفكارهم ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾. هذا جزاء المطففين ، ثم بين بعد ذلك جزاء الموفين ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ تنافسوا لتبلغوا منازل الأبرار، ولا تتنافسوا في الدنيا وحطامها فقد قال عليه الصلاة والسلام: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم».