عليكم بالعلم

عليكم بالعلم - الخطبة الأولى

 

فلقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة ، على بيان شأن العلم وأهله ، والترغيب في النهل من معينه الصافي ، وسلسبيله العذب الشافي . استمع إلى قول الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.

قال القرطبي رحمه الله : قال الزجاج : أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقوله تعالى ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.

قال ابن القيم رحمه الله : فما ثم إلا عالم أو أعمى . وقال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيباً يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين . وإنما أنا قاسم ، والله يعطى ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» رواه البخاري ومسلم .

وعند الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظً وافر».

 وروى الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامه قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان : أحدهما عابد والآخر عالم فقال عليه أفضل الصلاة والسلام : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ثم قال «إن الله وملائكته ، وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير».

 قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على السراء ، والمعين على الضراء ، والوزير عند الأخلاء ، والقريب عند الغرماء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواماً ، فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدي بهم ، أدلة في الخير ، تقتص آثارهم ، وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتهم تمسحهم ، يستغفر لهم كل رطب ويابس ، حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، والسماء ونجومها ، والعلم حياة القلوب من العمى ، ونور للأبصار من الظلم ، وقوة للأبدان من الضعف. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : عليكم بالعلم قبل أن يرفع ، ورفعه هلاك العلماء فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء ، أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم وإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم .

 وروى كميل بن زياد قال : أخذ على بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي , فأخرجني ناحية الجبانة ، فلما أسحر جعل يتنفس ثم قال : يا كميل بن زياد القلوب أوعية , فخيرها أوعاها ، احفظ عني ما أقول لك ، الناس ثلاثة فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، العلم خيرٌ من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال . العلم يزكو على الإنفاق ، والمال تنقصه النفقة ، العلم حاكم والمال محكوم عليه ، ومحبة العلم دين يدان بها ، العلم يكسب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، وصنيعة المال تزول بزواله ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقى الدهر …. إلى أن قال : لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه لكيلا تبطل حجج الله وبيناته ، أولئك الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا منه ما استوعر منه المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه ، ودعاته إلى دنيه ، هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم ، وأستغفر الله لي ولك إذا شئت فقم .

عليكم بالعلم - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

 أخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد وغيره من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيراً ، ثم شددت رحلى ، فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس . فقلت للبواب : قل له جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟! قلت : نعم . فخرج فاعتنقني ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه وذكر الحديث .

وروى ابن ماجة في سننه عن كثير بن قيس قال : كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق . فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء أتيتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :فما جاء بك تجارة ؟ قال : لا ، ولا جاء بك غيره ؟ قال : لا ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة».

عباد الله : العلماء بالله تعالى وبشرعه هم أهل خشيته ، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، قال الحسن البصري رحمه الله: "العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سَخَطُ الله فيه"، ثم تلا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء﴾.

روى عبد الله بن وهْب عن سفيان: أن الخضر قال لموسى عليهما السلام: يا ابن عمران! تعلم العلم لتعمل به، ولا تتعلمه لتحدث به، فيكون عليك بورُه، ولغيرك نوره.

فثمرة العلم أن يعمل به، لأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وخير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، ومن تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخلُ من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد.

والعلماء هم أسلمُ الناسِ فِكرًا وأمكنُهم نظرًا، لا يؤثِرون على الحقِّ أحدًا، ولا يجِدون من دونه ملتحدًا، نظرُهُم عميق ، ورأيهم وثيق ، وفِكرُهم دقيق، علَّمتهم الوقائعُ والتجارب مكنونَ المآلات والعواقب، فخُذوا مِن علمهم، واصدُروا عن رأيهم، وإياكم وكلَّ قولٍ شاذّ ، وفكرٍ نادّ ، ورأيٍ ذي إفناد ، وانعزاليَّة وانفراد، وإنما يأكلُ الذئب من الغنم القاصِية.