التفاؤل في زمن القنوط

التفاؤل في زمن القنوط - الخطبة الأولى

التفاؤل وحسن الظن بالله عبادة عظيمة، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول «لا طيرة وخيرها الفأل».قيل: يا رسول اللّه. وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم» رواه البخاري ومسلم، وعن أنس رضي اللّه عنه أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل:الكلمة الحسنة، والكلمة الطّيّبة» رواه البخاري ومسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وعند مسلم قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ.

تلك العبادة سنة أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد أن مسه الكبر وامرأته عاقر قال تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ وهذا يعقوب عليه السلام بعد فقده لولده ﴿يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ قالها بعد تعرضه لفقد ولده الثاني، وهو ما زال يرجو عودة يوسف الذي فقده قبل أربعين عاما، اندرست فيها المعالم وتغيرت فيها الأشكال وصعب معها البحث، لكنه يقول ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

عباد الله: ولقد ترجم نبينا صلى الله عليه وسلم التفاؤل واقعا في حياته، ففي مكة في شدة الأذى والحصار، قال لأصحابه لما شكوا إليه عظيم ما يلقونه من البلاء: والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. وفي الهجرة خرج هو وأبو بكر مطاردا أحاطت به المخاوف من كل صوب، ومع ذلك قال لصاحبه: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأن التفاؤل تنشرح له النفوس وتسر له القلوب، فهو من أسباب سعادة الإنسان وزوال الهم عنه،وهو ثمرة إحسان الظن بالله تعالى وكمال العلم برحمته وجوده:

وإني لأرجو الله حتى كأنني*** أرى بجميل الظن ما الله صانع

التفاؤل روح تبعث على العمل، وتفتح آفاق الجد والبذل لإدراك المقاصد، وبلوغ الغايات، فالفأل سلم العمل، ودواء العجز والكسل. وهو النظرة الصالحة التي تنطلق من الرضا بالقضاء، وتستعين بالموجود لتحقق المفقود، إنه التفاؤل الحق المقرون بحسن العمل وبذل المستطاع من الأسباب. قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما الفرق بين الفأل والطّيرة أنّ الفأل من طريق حسن الظّنّ باللّه، والطّيرة لا تكون إلا في السّوء فلذلك كرهت، رواه البخاري

وروى أبو هريرة «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سمع كلمة فأعجبته، فقال: أخذنا فألك من فيك». فينبغي لك في كل أمر أن تتأوّله بأحسن تأويلاته، ولا تجعل لسوء الظّنّ إلى نفسك سبيلا.

عباد الله: إن أمسكت السماء واشتد الجدب أمّلنا بربنا خيرًا وانتظرنا الفرج منه وقرب رحمته سبحانه ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وإذا ضاقت أمور الرزق والمعيشة، فلا ينقطع رجاؤك بالكريم الرزاق، وإذا ساءك خُلق أبنائك، فتفاءل خيرًا بهداية من بيديه قلوب العباد وإذا اشتد بك المرض وطال بك السقم وتوالت عليك الأوجاع فتذكر نبي الله أيوب عليه السلام وقوله ﴿أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين

وكلُّ الحادثاتِ إذا تناهتْ *** فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرْيَبُ

نسأل الله عز وجل أن يملأ قلوبنا ثقة به، وبنصره و وإحسان الظن به..

التفاؤل في زمن القنوط - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

إذا أظلمت الدنيا في عينيك، فلم تر إلا سواد المعاصي، ولا يملأ سمعك إلا حرب هنا وإبادة هناك، أعراض تهتك، وأطفال تيتم، ونساء ترمل، كثر الخطف، وانتشرت الجرائم، ابتلي الكثير بالمخدرات، وراجت سوق المسكرات، قل الناصر على الخير، وكثر دعاة الضلالة، سبوا الله وطعنوا في دينه، هناك حروب طاحنة، وأجزاء تغمرها الفيضانات، وأخرى تهزها الزلازل، أمن يترنح، مستقبل مظلم، وفقر مدقع، تبرج وسفور، واختلاط وعظائم أمور، وخوف وقلق، من زوال نعمة وارفة الظلال . هذا كل ما يراه كثير من الناس اليوم، إن استمعوا إلى المذياع، أو تنقلوا بين القنوات، أو تجولوا في المواقع والمنتديات، فلا يشاهدون ويقرؤون، إلا أخبار القتل والتشريد، والدمار الأكيد، لا يرون إلا الدماء والأشلاء، لا يكادون يسمعون خبرا مفرحا، أو أمرا مبشرا، فأصيب الكثير بانعكاسات نفسيه، وردود فعل قوية، أصابهم اليأس والقنوط، ففارقتهم الابتسامة، وغاب عنهم الفأل والأمل، لو التفتوا ذات اليمين، لرأوا المساجد وما أكثر عمارها، وحلقات تحفيظ القرآن وما أعظم نتاجها، دروس ومحاضرات، وندوات ودورات في المساجد طوال العام، المتمسكات بالحجاب والفضيلة، أضعاف أضعاف المتهتكات، المعافون أضاعف المرضى في المستشفيات، الخير موجود في أهل هذه البلاد، رجال ركع، وأمهات خشع، وشباب بلباس الشرع يرتع، الأمن وارف الظلال، وإن خدشه بعض الجهال، الرزق وافر، وإن عانى الكثير، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة وراياتها مرفوعة، في المجتمع خير كثير، فقلما تنصح مقصرا إلا ويبادرك بالاستجابة بل وبالدعاء لك، فانظر إلى الوجه الجميل، وارض بالقليل، واعمل بالتنزيل، تأتيك الدنيا وهي راغمة، ويشرق وجهك وتتجدد آمالك، وترضى بما قسم الله لك