القابض على دينه

القابض على دينه - الخطبة الأولى

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَالْتَزِمُوا دِينَهُ، وَاعْمَلُوا بِشَرِيعَتِهِ، وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَنٍ تَقَاطَرَتْ فِيهِ الفِتَنُ كَقَطْرِ السَّمَاءِ، وَدَاخَلَتْ كَثِيرًا مِنَ القُلُوبِ فَأَفسَدَتْهَا، وَحَرَفَتْهَا عَمَّا يُسْعِدُهَا وَيُنْجِيهَا. ودَلَّتْ دَلائِلُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ القُلُوبَ تَتَقَلَّبُ، وَأَنَّ الأَفْكَارَ تَتَبَدَّلُ، وَأَنَّ القَنَاعَاتِ تَزُوُل ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ وقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

عباد الله: إننا في زمان كثرت فيه البليات، وتنوعت فيه الشبه والشهوات، انفتحت السماء بأطباقها ، والأرض بأليافها ، تمازجت الثقافات ، وذابت الفروقات، وراجت الشائعات ، وكثر المتقلبون ، وتنوع المفتون ، فحار بعض الناس ، وكثر البأس، من يصدقون؟ ومن بالكذب يصفون؟  هذا بالأمس داعية متبوع ، واليوم رأس في الضلالة مرفوع ، بالأمس كنا نعرف أن تلك سنة، واليوم أصبحت بدعة، ذاك حرام واليوم حلال، رفع الإعلام بعض المتعالمين، فتتبعوا الرخص، وبحثوا عن شواذ الأقوال، لا يتورعون عن قول، ولا يتوقفون في مسألة، ترى أحدهم يتكلم في برامجه بالساعات، فما يورد آية من كتاب الله ، ولا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَتَقَلَّبُ فِي أَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ وَالمَذَاهِبِ؛ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا عِلْمًا لَمْ يَجِدْهُ فِي الحَقِّ الَّذِي كَانَ يَتَّبِعُهُ، فَلاَ يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ حَيْرَةً وَشَكًّا، وَقَلَقًا وَجَهْلا. ولأنهم يوافقون الأهواء ، كثر أتباعهم ، وبدأ في الناس أثرهم ، فقل المتمسكون بالسنة ، العاضون عليها بالنواجذ ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ المُتَمَسِّكُ فِيهِ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ أُمَّتِي كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ» وهناك أقوام غرقوا في الشهوات ، فُتِحَتْ لَهُم أَبْوَابَ الدُّنْيَا، وَرَأَوا زَهْرَتَهَا، وَذَاقَوا حَلاَوَتَهَا؛ فخَلَدَوا إِلَيْهَا، وَتَخَفَّفَوا مِنْ قُيُودِ الشَّرِيعَةِ، وَأَثقَالِ الطَّاعَةِ.

عباد الله: ولكن وبحمد الله ، لازال بيننا أقوام، يحيون ليلهم بالقيام ، ونهارهم بالصيام ، لا يملون من تلاوة القرآن ، فكلما ختموه أعادوه ، جباههم في محاريبهم ساجدة، وقلوبهم من خشية ربهم مشفقة ، وعيونهم من إجلال الله دامعة، في صلاتهم خاشعون ، عن اللغو معرضون، للزكاة فاعلون، لا تجدهم في مجالس الغيبة ، ولا تسمع منهم النميمة ، لا يجدون راحتهم إلا في المساجد ، فهم بين قائم وساجد ، على دينهم ثابتون ، ولشرع ربهم مقدمون ، لا ينجرفون خلف دعاة الحرية والديمقراطية ، ولا يبالون بدعاة التغيير والليبرالية، ولا تستخفهم دعوات التخريب والمظاهرات،  قال الآجري في وصـف الـغريب في آخر الزمان: فلو تشاهده في الخلوات، يبكي بحرقة، ويئن بــزفــرة، ودموعه تسيل بعبرة، فلو رأيته وأنت لا تعرفه، لظننت أنه ثكلى قد أصيب بمحبوبه، وليس كما ظننت ، إنما هو خائف على دينه أن يصاب به ، لا يبالي بذهاب دنياه، إذا سلم له دينه ، قد جعل رأس ماله دينه، يخاف عليه الخسران. وقال ابن مسعود ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفرطون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. إنهم قلة ، وفي الناس خفيون ، ولذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم «ناس صالحون قليل ، في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» رواه أحمد

عباد الله: هل يستوي هؤلاء مع عباد الشهوات ، الوالغين في الشبهات ، كلا والله لا يستوون ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هؤلاء الصابرون ، هؤلاء الثابتون ، اسمعوا بماذا يجازيهم ربهم ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وتمعنوا فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند الطبراني «إن من ورائكم أيام الصبر المتمسك فيهن يومئذ بمثل ما أنتم عليه كان له أجر خمسين منكم».

القابض على دينه - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ قُلُوبَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهَا إِلَى زَوَالٍ؛ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا، فَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

فالمخرج من الفتن والافتراق والأهواء، لا يكون إلا بالصبر والثبات والتواصي عليه «فيا عباد الله اثبتوا» قالها النبي صلى الله عليه لمواجهة فتنة الدجال . تمسكوا بالقرآن ، فهو العصمة والنجاة ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ فعليكم  بكلام الله تلاوة وتدبراً ، وحفظا وعملاً ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾.

وتعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته وأعملوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، قال عليه الصلاة والسلام «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» ثم الزموا غرز العلماء المعروفين ، بالفقه في الدين ، واتباع سنة سيد المرسلين ، وأكثروا من السنن المستحبات، والأعمال الخفيات، فبها يزداد الإيمان. ثم الجؤوا إلى الله بالدعاء أن يثبتنا على دينه ، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعوا ربه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»

عباد الله : المؤمن لا يقنط من رحمة الله ، ولا ييأس من روح الله ، فسيجعل له بعد عسر يسرا ، وإن الفرج مع الكرب. ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾.