العبودية والحرية

العبودية والحرية - الخطبة الأولى

 

أمأما بعد: عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله تعالى قد خلقكم لعبادته، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ فعبادة الله تعالى وحده لا شريك له هي الغاية القصوى، والمطلب الأسمى، والمقصود الأعلى.

أيها المسلمون: إن العبودية لله تعالى التي هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وسرور النفوس ، هي أمر عام واسع رحب، يشمل جميع مناحي الحياة وشؤونها، في العبادات والمعاملات، والحدود والجنايات، والأخلاق والسياسة، والاقتصاد والإعلام وغيرها .

العبودية قضية حتمية لا فكاك للإنسان منها بحال، في كل زمان وفي كل مكان، فالإنسان بين حالين لا ثالث لهما، إما أن يتوجه بعبادته وخضوعه وانكساره لله الواحد القهار، فيكون موحدًا مطيعًا مطمئنًا سعيدًا، وإما أن يكون خاضعًا أسيرًا ذليلاً لمعبودات باطلة، من أصنام وأوثان، وهوى وشيطان، وقوانين وأعراف: ﴿أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾، تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم . .

وإن الشرف كل الشرف، والرفعة كل الرفعة، في العبودية لله القوي الجبار، فهو الذي خلق ورزق، وأعطى وأغدق، وتفضل وأكرم، وأحيا وأمات، وأضحك وأبكى، وأغنى وأقني، سبحانه وبحمده، ولا إله غيره، فأيّ آلهة هي أحق وأولى بالعبودية؟! ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

عباد الله : العبودية الحقة، تسليم وانقياد، واستجابة لله في فعل المأمورات، وترك المنهيات، حركات في الظاهر، واعتقاد في الباطن ،وطمأنينة في النفس، تواطؤ وتوافق، بين عبودية القلب، وعبودية الجوارح، فيفعل المكلف خلاف هوى نفسه، طاعة ومحبة لله، وتعظيمًا وخضوعا له، ولقد حد الله لشرعه حدودا، وجعل لأتباع شرعه سياجا ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ﴾ ، «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلا وَإِنَّ حِمَى اَللَّهِ مَحَارِمُهُ» فحدد شرعه، وأمر أتباعه بالخضوع له، وتقفي أثر نبيه، فلا يجوز لمسلم تحكيم رأيه، أو تقديم هواه على شرع ربه ،وليس حر في ذلك بعد عبد خاضع ذليل ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ فلقد تولى الإسلام أمره في يقظته ومنامه، في عبادته واعتقاده ،في حربه وسلمه، في بيعه وشرائه، في لباسه وأخلاقه ، بل في قضاء حاجته ومعاشرة زوجه ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فالمسلم الذي قيد حريته بحدود الشرع، له منهج يهديه، إلى ما ينفعه في دنياه وأخراه، ويمنعه من الظلم والإضرار بمن سواه.

عباد الله : يجب على المسلم أن يحذر من كل طريق يسلكه كل منحل من رباط الأحكام، وكل متحرر من قيود الإسلام، وكل من جاهر بعصيان الديان، وسارع في تبعية الشيطان، وأحفاده من بني الإنسان، يرمي أهل الإيمان بالتخلف عن ركب الحضارة ومعاصرتها، وهو في حقيقته متخلف عن درب الجنة وطريق أهلها، متقدم إلى حرية الهوى ،والجحيم والهلاك بعذابها

أيها المسلمون : أعطى الإسلام أتباعه حرية مقيدة ،بحدود الله منضبطة ، لا بهيمية مطلقة ، فليس للمسلم أن يعتقد ما يشاء ، أو أن يبتدع عبادة كيف شاء ، أو أن يقول ما يشاء، أو يكتب ما يشاء، أو ينشر ما يشاء؛ فقد يقول كلمة فيكفر بها، ويستحق القتل بسببها. والرأي أو الكلمة التي يزعم بعض الناس أن الإنسان حرٌ فيها قد تودي بالإنسان إلى النار، وتستجلب غضب الجبار ؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلَمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهَنَّمَ» (خ) ، فكيف إذا كان يلقي لها بالا ويدافع عنها ويتبناها. اللهم ...............................................

العبودية والحرية - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

عبادة الله ليست من باب الذل والمهانة، وإنما من باب الإكرام والرِّفعة والشرف، والله جل وعلا أكرم نبيه بالعبودية فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى فإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله» فعبودية الله شرف يسعى له الموفقون من عباد الله ، أما التخلص من قيود الشرع ، والدعوة لصنم العصر ، الحرية الفكرية ، فهذه دعوى قديمة انكوى بنارها مقرروها، يقول أحد الغربيين: ولا شك أن فلاسفة عصر النور هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوروبا وأمريكا. هذه الحرّيّةُ نرى تناقضَ أربابِها، ورموزها وحملة لوائِها ، فعندما لا تتَّفق مع مصالحهم فلا اعتبار ولا ميزان لها. كمنع الحجاب في فرنسا ، ويزعمون أنهم لا يجيزون شتيمة الناس بعضهم لبعض، ولا الكذب عليهم، ولكنهم يجيزون الكذب على الله تعالى وعلى ملائكته ورسله عليهم السلام، ويجيزون الطعن في خيار هذه الأمة وسلفها الصالح، ويكذبون بالثوابت والمسلمات، ويسفهون النبوءات والديانات. يقولون لك الحرية في كل شيء شريطة أن ل تتعدى على الآخرين ، فلو قال قائل أنتم أحرار في تعريف الحرية وأنا حر في تعريفها أيضا فهي تعني عندي الحرية المطلقة ، فأنا حر في اختيار حياتي أنا حر أريد أن أزني وأن أسرق وأن أدمن المخدرات أريد أن أخالف أنظمة المرور وأن أبني بيتي في الشارع أريد وأريد فماذا أنتم قائلون يا أنصار الحرية

.عباد الله : ونحن في هذا الزمان الذي كثرت فتنه ، لم نعد نشكو الخلل من عدو ظاهر ، أو فاسق مجاهر، بل تعدى الأمر إلى من كنا نرجو منهم بعد الله النصرة ، فهذا واحد ممن كان يحسب من الدعاة ، يقول إن حد الردة ليس حدا شرعيا بل حد سياسي فللمسلم أن يغير دينه، ويقول اتركوا الناس يختارون دينهم ، ويقول من حق الإنسان أن يعترض على الله وعلى رسوله ، فحرية التعبير أمر مقدس مكفولة لكل أحد ، ويقول اتركوا الناس يعبدون الرب الذي يريدون ، ويتبعون المنهج الذي يختارون ، ويقول ألم يقل الله ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وما علم هذا الجاهل أن الآية حجة عليه لو قرأ ما بعد ذلك ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً﴾ وجهل بأن هذا من باب التهديد لا من باب التخيير ، فيا أيها الجاهل ماذا نفعل بآيات الجهاد وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الحديث وفي أمثالها من الأدلة الضابطة للحرية . وهذا مفكر إسلامي معروف ، يقول إن أغلى ما أملك حريتي، وكان الأولى أن يقول عبوديتي ، ويقول لابد لك أن تتغير فإن كنت تردد كلاما تقوله من عشرين سنة فقد ضاعت من عمرك سدى ، ونسي أن نوحا مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يقول ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يقول للناس قولوا لا إله إلا الله ، والقرآن يردده المسلمون من أكثر من ألف وأربعمائة عام ولم يغيروه ، فهل ذهبت أعمارهم سدى ؟ فالتغير على إطلاقه غير محمود، التغير من الضلال إلى الهدى ومن المعصية إلى الطاعة أمور مطلوبة لكن أضدادها مذمومة والثبات على الحق مطلوب ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.