الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب - الخطبة الأولى

 

يعيش أهل الإسلام اليوم معركة صراع قاسية، ويواجهون زحف حياة عصرية، وحضارة غربية مادية، عارية عن القيم والأخلاق والآداب إلا قليلا، ما هي إلا بلاء وشقاء، وشرور وفجور، وهتك وفتك، وانتحار واختطاف، وإجهاض وشذوذ وإدمان. الصمت منقلب، والأمر مختلف، والجسم في نصب، والعقل في خَرَق.

أيها المسلمون: يزحف العالم الكافر بمدنيته وبليته إلى بلادنا ، بثورة إعلامية، وتقنية اتصال عالمية، وهاجمونا بقنوات فضائية، شهوانية شيطانية، سم زعاف يقضي على الكرامة والعفاف، وهجمة شرسة مستعرة، تتعرض لها أجيالنا الحاضرة، تشككهم في دينهم ، وتُفجّر غرائزهم، فتن مغرقة، وآثام موبقة، لا عاصم منها إلا الله بالتمسك الصادق بكتابه وسنة رسوله .

أيها المسلمون: ما أعْظَم جهل الإنسان حين يغرق في الوسائل، ويذهل عن الغايات، ويشتغل بالقشور، ويضلُّ عن اللباب. في المدنية المعاصرة تقدُّم مادي هيّأ للحياة وسائلها، ولكنه لم يَدُلَّها إلى غاياتها، زيّن ظاهرها، ولم يهدها إلى أهدافها ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ مدنيةُ اليوم تقوم على تعظيم المادة، وحب الدنيا، والاستكثار من الشهوات، وتوجيه كلِّ مخترَع ومكتشَف إلى التسابق فيها ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

عباد الله: الإيمان بالغيب، نعمةٌ يهبها الله بفضله لمن شاء من عباده ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ من حُرم ذلك فالحياة عنده ناقصة، والروح فيه مظلمة. الإيمان بالغيب يؤثر في الحياة تأثيراً عظيماً، ويورث في القلوب توجهاً وإقبالاً، ينقاد فيها إلى الاتباع، وتنقلب فيه الحياة إلى نور واستقامة، ورحابة في الصدور، وطمأنينة في النفوس، وجلاء في الحق، ورضا يملأ الجوانح ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ و إن في الدنيا من مواقفِ الابتلاء ما لا يقوى على مواجهته إلا من كان في يقينه رجاءُ الآخرة ﴿بلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ

عباد الله: لقد منح الله بفضله وحكمته الإنسان عقلاً، يعرف به ما غاب عنه، بمشاهدة ما هو حاضر عنده، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالله سبحانه أخبرنا بما وعدنا في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يُؤكل ويُشرب ويُنكح .. إلى أن قال: ـ فلولا معرفتنا بما يُشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا الله به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثلَ هذه.

عباد الله: إن التمايز بين الناس ليس بإدراك المشاهدات بالحسّ، فهذا يستوي فيه المؤمن والكافر، كما يستوي فيه الحصيف والبليد، ولكن الشأن كل الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، إذا قامت عليه الدلائل الصادقة من خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وطرق العلم اليقيني الجازم، فذلكم هو الإيمان الذي يميّز المؤمن عن الكافر، لأنه تصديق لله مجرّد، وتسليمٌ لرسوله تام، مع إذعان ويقين ورضا بعد علمٍ واستدلال. كما عند الإمام أحمد : جاء جمع من الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ مِنْ قَوْمٍ أَعْظَمُ مِنَّا أَجْرًا آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ ؟ قَالَ : «مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمُ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ ، قَوْمٌ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا ، أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا».

أيها المسلمون : إن المؤمن الحق هو من يؤمن بالغيب، ولا يتكلف البحث فيه؛ بل الواجب أن يجعل همته في العمل على تحقيق ما يرضي الله تعالى من الإيمان به، وإقامة دينه، والدعوة إليه. فاعتزوا بدينكم، واحذروا الانجراف إلى الغاوية، أو السقوط في الهاوية، واحموا أنفسكم وأهليكم، ولوذوا بالله مما تحذرون، وارمقوا العواقب بمقلِ الفِكَر، وادرِعُوا لهذه الفتن بمدارع الحذر، فإن سهام إبليس نافذة، والقلب يتأثر بأدنى مؤثر، ويتكدر بأيسر مكدر، كما تتأثر العين بلطيف القذى، والمرآة بيسير الأذى. اللهم...............................

الإيمان بالغيب - الخطبة الثانية

 

الحمد لله :

فلا يعلم الغيب إلا الله ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ وكل ما يحتاج إليه البشر، وما يصلح أحوالهم من الغيب كشفه الله تعالى لهم، حتى يقودهم إلى الإيمان به تعالى، و كشف الله لهم من العلوم ما يحتاجون ،وحَجَب عنهم ما لا يحتاجون إليه. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وكذلك أعطاهم من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجاتهم، كعلم الطب والحساب، وعلم الزراعة والغراس، وضروب الصنائع، واستنباط المياه، وعقد الأبنية، وصنعة السفن، واستخراج المعادن؛ والتصرف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيام معايشهم. ثم منعهم -سبحانه- علمَ ما سوى ذلك مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، كعلم الغيب، وعلم ما كان، وكل ما يكون،  ومن تكلف البحث في الغيبيات ففيه ضعفُ إيمان بها، ونوع إنكار لها؛ لأن قلبه لو اطمأن بالإيمان بالغيب لما راح يبحث عن هذا الغيب.

عباد الله : لقد وقف الإنسان أمام أستار الغيب المحجوب لا ينفذ إليه علمُه، ولا يقدر على كشف ما وراء المستور إلا بقدر ما يكشفه له علام الغيوب ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾ ومنذ أزمنة طويلة، وإلى يومنا هذا، كان كثيرٌ من البشر يبحثون في سر موت الإنسان وروحه، وما وجد الماديون منهم لذلك تفسيراً، لكنهم لو آمنوا بالغيب لعلموا أن الروح من أمر الله تعالى، وأن البشر مهما بلغت أبحاثهم وعلومهم فلن يصلوا إلى علمها؛ لضعفهم وقلة علمهم ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً

عباد الله :الإيمان بالله  من الإيمان بالغيب ، فهو تعالى لا تدركه الأبصار، ولن تراه في الدنيا، وإنما يراه عباده المتقون في الآخرة ،  فالذين يخافون من الله وهم لم يروه دليل على حبهم له، وقوة إيمانهم ويقينهم به، ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة ،والإيمان باليوم الآخر، ويتضمن الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وبالبعث والنشور، والعرض على الله، والجزاء والحساب، والصراط والميزان، والإيمان بالجنة والنار، وغير ذلك مما دل عليه القرآن ودلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بما صح به الخبر من الأمور المستقبلية، كخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام، وقتل المسلمين اليهود وغير ذلك.

فاتقوا الله ربكم، واحذروا الفتن، وافقهوا سبل النجاة منها، بالعمل بما يرضي الله تعالى، وترك القيل والقال في زمن كثر فيه الحديث، وقل فيه العمل.