سبيل الرشاد لرد موجة الإلحاد

سبيل الرشاد لرد موجة الإلحاد - الخطبة الأولى

 

فلقد قَضَى الله بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَوْفَ تَفْتَرِقُ إِلَى فِرَقٍ شَتَّى ، وَالذِي عَلَى الْحَقِّ مِنْهَا وَاحِدَةٌ ، فَعنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه .

عباد الله : لقد كان الناس في هذا المجتمع ، يعيشون حياة إيمانية هادئة ،يدرسون كتب العقائد، فيستقر الإيمان في قلوبهم ، ورثوا الإسلام وتعاليمه عن مشايخهم ، فكان مصدر التلقي واحدا ، الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، لا يسمعون أفكاراً تخدش هذا الإيمان ، ولا عقائد تصادمه .  ثم انفتح الفضاء ، وحل القضاء، مواقع وقنوات ، وكتب وروايات ، تستهدف هذا المجتمع، وتركز على شبابه، قنوات تجاهلت مشاكل بلدانها ، وانبرت للمجتمع السعودي، تبرز مشاكله، وتطعن في رموزه الدينية ، ومسلماته العقدية ، وعاداته وتقاليده، وتبرز كل شاذ من أنبائه في فكره أو سلوكه، على أنه القدوة المحتذى ، والرمز الجديد المجتبى. وفتح للناس باب السفر إلى بلاد الكفار بحجة السياحة فنقلوا بعض عادات الكفار ، واستحسنوا بعض طرائقهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في السنن من حديث جرير بن عبد الله: "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" وفتح أقوام باب التلقي من غير أتباع السلف الصالح، فكثر الرد على هيئة كبار العلماء، واستحسنوا التلقي من غيرهم، حتى قلت قيمتهم في نفوس العامة، فتعددت المشارب، وانقسم الشباب إلى جماعات ، وظهرت الحزبيات ،فكثر الخلاف، وقل الائتلاف.

عباد الله: مجتمعنا اليوم تنسج له ثياب غربية ، ويجرد من ثياب الإيمان والتقوى، يُقصفُ في فكرِه، ويمكرُ بتدينِه، بمكر كبار يتعرض له شبابنا ففُتحت لهم مصاريع الشبهات حتى غزتهم الشكوك وغرتهم الماديات والمحسوسات، وأنكروا وجود الغيبيات، وأصبحوا ضحايا لمقولة حرية الفكر، ولسان حالهم يقول: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

عباد الله: فتنة الشبهات تتنوع وتتشعب، فمن فتنة الغلو والتكفير، إلى فتنة الإلحاد والتشكيك، وهي فتنة صماء دهماء، ونابتة خطيرة عمياء، آخذةٌ بالانتشار، تتسلل عبر صفحات الإنترنت، والأفلام والقنوات، وتُذكيها شبهات وفلسفات، تُسطرها أقلام وعقول مأفونة، تؤدي إلى التشكيك بمسلمات الدين، وثوابت العقيدة. حتى وصلوا إلى سب الله ورسوله، والتنقص من دينه وشرعه، زاغت عقول الأذكياء، فانتكست بعد استقامتها، وارتكست في الشك بعد يقينها، وانغمست في الجحود بعد تصديقها، وولغت في النفاق بعد إيمانها. يغتر الواحد من هؤلاء بذكائه، ويعتقد أن التسليم لأمر الله تعالى دون معارضة، مخالف للعقل، وأن إيمانا هذا طريقه ليس إلا إيمان العوام والعجائز والمقلدة، وأن في العقل قدرة على كشف الغيب، وتعليل الفعل، والاطلاع على سر القدر، يلقي الشيطان على قلبه وابلا من الشبهات، وسيلا من التساؤلات: لماذا يخلق الله تعالى الكفار ثم يعذبهم؟ ولماذا يبقيهم على الكفر وهو قادر على أن يحولهم للإيمان؟ وإذا كان الله تعالى لا ينتفع بعذاب أحد من الناس فلم يعذبهم؟ وأي حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة؟ وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين؟ وأي حكمة في إيلام الحيوانات والأطفال والمجانين؟ وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه ؟! يرى الواحد منهم كافرًا منعمًا، أو فاجرًا ظالمًا مترفًا، ويرى في مقابله مؤمنًا معذبًا، وعبدًا صالحا مضطهدا،فيعترض على حكم الله تعالى وينفي حكمته، إلى أن يصل إلى إنكار قدره وقدرته، ثم إنكار وجوده وسطوته.

عباد الله : تأملوا قول الله تعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فكم من شخص اعترض على حكم شرعي انتهى به المطاف إلى الزندقة! وكم من مؤمنة اعترضت على الحجاب فانتهت إلى الإلحاد! من اجترأ على محرم فأباحه، أو واجب فأسقطه، فقد أضعف هيبة الشريعة في قلبه، وهان صاحب الشريعة سبحانه في نفسه، خالفوا أمره فأصابتهم الفتنة.

فاحمدوا الله الذي عافاكم، وحصنوا بالقرآن قلوبكم، وروضوها على التسليم والانقياد لله تعالى، ولا تتقحموا ما حجب عنكم؛ ففي من ضل قبلكم عبرة لكم. نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الزيغ، ويعصمنا من الفتنة، ويرزقنا التصديق بخبره، والانقياد لشرعه، والتسليم بعلمه وحكمته، والرضا بفعله وقدره ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾...

سبيل الرشاد لرد موجة الإلحاد - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

يجب التسليم والإقرار بأنه سبحانه لا يخلق ولا يفعل إلا لحكمة، ولو خفيت هذه الحكمة على العباد كلهم. ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ وليعلم العبد أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة، فمن كان أعلم وأقدر؛ كانت أفعاله أحكم وأكمل، والرب سبحانه منفرد بكمال العلم والقدرة، فأنى للعبد العاجز الجاهل أن يدرك حكمة العليم القدير إن حجبها عنه، وتأملوا قول الملائكة عليهم السلام ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ وما حال المعترض على أفعال الله تعالى لجهله بحكمتها إلا كحال من وصفهم الله تعالى بقوله ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، ولو أعملوا عقولهم فيما خلقت له، ولم يقحموها فيما لا علم لها به، لسلمت وسلموا. فالله جل وعلا خلق كل شيء وجعل له قدرة لا يتجاوزها، ولو حاول تجاوزها هلك ، فللعين قدرة فلا تستطيع أن ترى ما خلف الجدار مثلا، وللأذن قدرة فلا تسمع إلا ما قدر الله لها ،ففي حديث الذي يعذب في قبره قال عليه الصلاة والسلام «فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين» وفي قوله تعالى ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ لماذا لأن الله لم يعطك القدرة على ذلك وللعضلات قدرة فإن حملتها فوق طاقتها تلفت ، فكذلك العقل أعطاه الله قدرة معينة لا يمكن أن يتجاوزها فإذا وصل إلى مرحلة معينة فليس له إلا التسليم ، لأن إمعانه وتكليفه فوق طاقته وفوق ما قدر الله له يؤدي به إلى الشك والإلحاد ،فعن عَائِشَةَ أن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ، قَالَ : «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ ، فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ؟ فَيَقُولُ : الله ، فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ الأَرْضَ ؟ فَيَقُولُ : الله ، فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ الله ؟ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ، فَلْيَقُلْ : آمَنْتُ بِالله وَرُسُلِهِ». هنا تقف حدود العقل فلا حل إلا التسليم.

عباد الله: ما أحوجنا في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه الفتن، وجهر أهل الإلحاد بكفرهم، وأظهر المنافقون نفاقهم إلى تقوية القلوب بالإيمان والتقوى، وتحصين الناشئة ضد الأفكار المنحرفة، وذلك بغرس تعظيم الله تعالى في قلوبهم، والاستسلام لأمره، والرضا بقدره. ما أحوجنا إلى تدارس أسماء الله تعالى وصفاته.

عباد الله : حق على الأمة؛ مربين وأولياء؛ أن يغرسوا في نفوس الناشئة تعظيم الله ورسوله، وكتابه وشرعه ، وعلى معلمي العقيدة في المدارس أن يعوا أهمية هذه المادة، فليعتنوا بتدريسها للطلاب وليحببوها لهم، وعلى كل مستطيع مناقشة من تجرأ على ثوابت الأمة ،عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. كما ينبغي للإنسان ألا يأمن على نفسه أو ذريته الفتنة، فيوغل في النقاشات ، ويدخل مواقع الشبه والضلالات . فلقد أتى عمر بن الخطاب بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمتهوكون فيها يا بن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به» فمن منا اليوم أقوى إيمانا من عمر.