وما بدلوا تبديلا

وما بدلوا تبديلا - الخطبة الأولى

 

ففي طريق السّائرين إلى الله، والحاثِّين خطاهم إليه، والدّاعين إلى دينِه القويم، والتمسُّك بصراطه المستقيم، في سَيرهم عقباتٌ كأدَاء، وخصومٌ ألدَّاء، ولأواء وأدواء، لا يخلص منها إلاّ مَن وفقه الله وهداه.

عباد الله : لقد مرّت بديار الإسلامِ أزمان شديدةٌ، ونكبات عديدة، انتهت فيها الخلافة الرّاشدة، وسقطت الدّولة الأمويّة والعباسيّة ، ولم يورِث ذلك في نفوس المسلمين شكًّا في عقيدتِهم، أو ريبا في دينهم، ولم يرَوا الحقَّ إلاّ في دين الله عقيدةً وسلوكًا، ونظامَ حياة ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

أيها المسلمون: ما أوضاع المسلمين اليوم؟ وما أنواع الفتن والمغريات، التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات،التي بسببها أضحى الدين غريبًا، فنال المتمسكون به مثلاً عجيبًا «القابض على دينه كالقابض على الجمر»؟ وما ذاك إلا لفساد الزمان، وندرة الإخوان، وضعف المعين، وكيد الفاجر، مع قلة الناصر، ولقد عشنا سنين متطاولةً، في هذه البلاد المباركة، ونحن في معزل عن كثير من الفتن، وكان يتقاطر علينا الفساد تقاطرا، ولكنه انهمر اليوم، يمطر بيوتًا كثيرة بوابله المشين، حتى تغيرت بيوتٌ، وانتكست فطرٌ؛ فساء مطر المنذرين، وكثرت حوادثُ النكوص على الأعقاب، والانتكاساتُ إلى الوراء، والانحدارُ إلى الفساد؛ وألفتِ الفتنَ بعضٌ من القوم لم يتركوا الفساد رغبةً فيما عند الله، وإنما لأنه لم يتوفّر لهم، فلما كان الخيار لهم بين طريقين واضحَين متاحين ،إذا هم لا يمتنعون من الانزلاق، ولا يتورعون عن الانخراط، بل يستبيحون محارمَ الله بأدنى الحيل، فلم يكن البعض في سبيل الثبات بأقوياء، ولا في باب الأمانة على الأهل والذريات بأوفياء. والعجب كل العجب من أقوام منَّ الله عليهم بالإيمان، وفتح عليهم أبواب البر والخير، فلما تذوّقوه مضوا على طريقه رويدًا، وما هو إلا قليل حتى شقَّ عليهم الأمر، وطال بهم الطريق، وجاءهم الشيطان، وثقَّل عليهم الأعمال، ووعدهم ومنَّاهم، فاستثقلوا الاستقامة، وتهاونوا بالصالحات، ودب إليهم الملل، من كثير من العمل، فانحلَّت الأطناب، ووهَنت الأركان، وانعَكس سَيرُه ، فأصبح ما يراه بالأمس حقا بينا، أضحى اليوم عنده باطلا، والمبادئُ والقيم التي كان يدافع عنها بالأمس، أصبحت اليوم عادات قديمة، وتقاليد بالية لا تصلح لهذا الزمان ، فأصبح من الطاعنين في دين الله ، وبدلا من أن يكون عونا لإخوانه الصالحين ، والآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، أصبح اليوم شوكة في حلوقهم ، ومعولا في أيدي أعاديهم ، يلوي أعناق النصوص ، ويبحث عن كل مخالف ، يقوي حجته ويثبت قوله وإن خالف الدليل ، فأبطَلَ ما قدَّم، ونقض ما أحكَم، وبدَّل الحسناتِ بالسّيئات، وحارَ بعدما كان، وأرخَى لنفسِه العَنان، وعاد إلى الفُسوق والعِصيان، فذاك الخاسِر المغبون، والغاوِي المفتونُ، الذي أذهَب بهاءَ طاعته، وأحبط أجرَ عبادته. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

عبد الله : يا من استقام على أمر الله، واتبع هداه، وآثر رضاه، يا من خالط الإيمانُ قلبَه، فأضاء لذلك وجهُه، وطابت به نفسُه، يا من حافظ على صلاته، يا من منع أذنه وبصره عن الحرام، يا من ترك الربا، وهجر كل مكسب محرم، إلى كل شاب تشتعل بين جنبيه نارُ الغريزة، وهو مُستطيع إطفاءها لو أراد بأنواع المحرمات، لكنه يقرأ قول الله في صفات المتقين ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ إلى كل شابة ترى الفتيات من حولها، وهن يخرجن متبرجات متعطرات، صارفات إليهن أبصار الرجال، لكنها علمت ما يجب عليها من الحجاب، وآثرت ما يحبه الله على ما تحبه هي وتهواه، فلبست الحجاب كما أمر الله، وأخفت زينتها لا لشيء إلا لتنال وعد الله ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ إلى أولئك جميعًا نقول: أكثروا من حمد الله وشكره، فقد أنعم الله عليكم بأعظم النعم وتفضل عليكم بأفضل المنن، فالله الله في المزيد. واسألوا الله الثبات.

وما بدلوا تبديلا - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

فإنّ من أسباب الثّبات على دين الله الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، والتمسّك بما فيهما، واتّباع هديِهما، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدًا: كتاب الله وسنّتي» ويتبع هذا الأصلَ، الاقتداءُ بسلفِ الأمّة الصّالحين، مِن الصّحابة ومَن سار على نهجهم، وفي طليعتِهم الخلفاءُ الرّاشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ففي السّنن بسند صحيح: «عليكُم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ» .

والدعاء من أعظم أسباب الثبات ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب، ثبّت قلبي على دينك» رواه الترمذي عن أنس

ومن أسباب الثبات الالتفافُ حولَ العلماء الصالحين والدّعاة الصادقين الذين عُرفوا بنصحِهم وسلامة منهجهم، فإنّهم ورثةُ الأنبياء ومصابيحُ الدُّجى، أهدى النّاسِ طريقًا وأقربُهم من الله توفيقًا.

ومِن عواملِ الثّبات لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامهم واعتزالُ الفتنة، وهذه وصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لحذيفةَ رضي الله عنه كما في الحديث المتّفق عليه

عباد الله: الصبر من أسباب الثبات ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : «وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» رواه البخاري ومسلم.

ومن أباب الثبات : الإيمان بصدق ما نحن عليه، و بصواب ما نعتقِده، فمَن فعل ذلك لم تزعزِعه الخطوب ولم تُثنِه الكروب، وهذا هو موقِف النبيّ صلى الله عليه وسلم في دعوتِه حين حارَبه الأقارب قبل الأباعِد، وطورِد وشرِّد، وحوصِر وقوطِع، وطُلِب للقتل، واجتمَع عليه الأحزاب، لكن ذلك لم يثنِه عن مرادِه حتّى بلَّغ دينَ الله. وكذلك كان أصحابُه رضوان الله عليهم، قُيِّدوا بالحديد، وقُطِّعت أجسادُ بعضهم، وصُلب آخرون، ومسَّتهم البأساء والضرّاء وزلزِلوا، فلم يزِدهم ذلك إلاّ صلابةً في دينِهم وثباتًا على منهجهم وصِدقًا في سيرهم إلى الله، حتّى لقوا ربَّهم على ذلك، ﴿مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا﴾ فالبعيدون عن تطبيق شرع الله، هم المسارعون في الفتن إذا ادلهمت، وهم حطبها إذا اتَّقدت، ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطًا مستقيما. قال الله ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ