التشكيك في رؤية الهلال

التشكيك في رؤية الهلال - الخطبة الأولى

فمَنِ اسْتَقْرَأَ الْشَّرِيعَةَ الْرَّبَّانِيَّةَ، فِي بَابِ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ، وَاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنِ اخْتِلافِهَا وَتَفَرُّقِهَا؛ تَبَيَّنَ لَهُ مِقْدَارُ مَا أَولَتْهُ مِنْ عِنَايَةٍ بَالِغَةٍ لِهَذَا الْجَانِبِ الَّذِي بِهِ تَقْوَى الأمَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ عِزُّهَا، وَيَدُومُ أَمْنُهَا وَاسْتِقْرَارُهَا.

وإِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَقَاصِدِ الْشَرِيعَةِ وَأَبْيَنِهَا فِي الأحْكَامِ المُفَصَّلَةِ: تَحْقِيقَ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ وَائْتِلافِ الْقُلُوبِ، فِي كُلِّ أَبْوَابِ الْشَرِيعَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالمُعَامَلاتِ وَالآدَابِ، بَلْ حَتَّى فِي الْعُقُوبَاتِ. فَفِي الْصَّلاةِ لا يَخْفَى وجوب صَلاةِ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْ مَقَاصِدِهَا الْلِّقَاءُ فِي المَسْجَدِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَيُتَوَّجُ ذَلِكَ بِترَاصِّ الْصُّفُوفِ حَتَّى تَلْتَصِقَ الأقْدَامُ وَالمَنَاكِبُ «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» فَهَذَا مَقْصَدٌ لِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ ظَاهِرٌ مُتَكَرِّرٌ، وَفِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ وَالْشَّعَائِرِ لا تَمَايُزَ وَلا افْتِرَاقَ، بَلِ الْقِبْلَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْشَّعَائِرُ وَاحِدَةٌ، وَالمَشَاعِرُ وَاحِدَةٌ؛ لِتَكُونَ الأمَّةُ أُمَّةً وَاحِدَةً.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: وفي القرآن  أمر الله بِالْتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ دِينُهُ أَوْ كِتَابُهُ أَوْ عَهْدُهُ، وَنَهَتْ عَنِ الْفُرْقَةِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الَّتَمَسُّكِ بِالْدِّينِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ وقال ﴿أَنْ أَقِيمُوا الْدِينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ فإقامة الْدِينِ سَبَبٌ لِلْوَحْدَةِ كَمَا أَنَّ تَفَرُّقَ الْدِينِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ .

عباد الله : للدين قواعد؛ بقدر الإحاطة بها تتحقق السلامة من المزالق، وعلى قدر الأخذ بها تنجو الأمة من المضائق، ومن قواعد الشرع المعتبرة، وأصوله المقرّرة، وأسسه المحرّرة: اعتبارُ مآلات الأفعال، ونتائج الأعمال. وبالنظر إلى ما يؤول إليه الفعل يُعلم حكمه، ويسهل وصفه، وقد يكون العمل في الأصل مباحًا، لكن يُنْهَى عنه لما يؤول إليه من المفسدة. وكلُ مشروع مآله غير مشروع فهو في الشرع ممنوع، وكل جائز يُفْضِي إلى غير جائز فهو في الشرع غير جائزٍ.

وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المعنى في غير موضع من كلامه، وبين أن ترك بعض المستحبات في بعض الأحيان مراعاة للمصلحة الراجحة مما ينبغي العناية به، ومن كلامه في ذلك قوله رحمه الله: ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم. وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال الخلاف شر. انتهى.

وَأَرْشَدَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ اخْتِلافِ الْنَّاسِ، وَانْتِشَارِ الْفُرْقَةِ فِيهِمْ، إِلَى لَزُومِ سُنَّتِهِ وَالَّتَمَسُّكِ بِهَا لِلْسَّلامَةِ مِنَ الْزَّلَلِ وَالْوَقَايَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْرَّاشِدِينَ المَهْدِيِينَ، عَضُوا عَلَيْهَا بِالْنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ».

عباد الله : وقد بين لنا صلى الله عليه وسلم ، متى نصوم ومتى نفطر ، ففي الحديث الصحيح «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» وفي الحديث الصحيح «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» وبما أنه قد ثبتت رؤية هلال شوال مساء يوم الاثنين برؤية الشهود العدول في عدد من المناطق ، وحيث تم اعتماد هذه الرؤية من المحكمة العليا بالمملكة وصادق على ذلك ولي الأمر ، فلا ينبغي أن يشكك أحد في ذلك، كما فعل بعض الفلكيين بالقول بعدم إمكان رؤية الهلال مساء يوم الاثنين الماضي ، ولقد ارتكب هؤلاء النافون جرما عظيما، لتشكيكهم المسلمين في عبادتهم، وإثارة البلبلة والخلاف والشقاق في الأمة، والطعن في الثقاة العدول الذين سلكوا المسلك الشرعي في إثبات دخول الشهر، لهذا كله فلا يلتفت إلى هذا التشكيك والإرجاف والبلبلة، وكان الواجب على هؤلاء الفلكيين أن يسلكوا المسلك الشرعي في قبول ذلك ، والإذعان له ، وعدم المكابرة، وإثارة الفتنة ، وتفريق الكلمة.

التشكيك في رؤية الهلال - الخطبة الثانية

الحمد لله

 من المؤسف أن يصدق بعض الناس هؤلاء الجلهة بالعلم الشرعي ، وأن يصغوا لما يبثونه من سموم في القنوات والمواقع ، وتناسوا أن الفلكيين قد اختلفوا فمنهم من قال بإمكان الرؤية وقد أصاب ، ومنهم من قال باستحالة الرؤية وقد أخطأ ولاشك ، كما أن التقويم قد وافق الرؤية ، والدليل هلال يوم الأربعاء ،فكل الدلائل تشير إلى خطأ المراصد الفلكية التي أكدت عدم إمكان الرؤية ، وهي بلا شك أعمال بشرية قد يعتريها الخطأ والنقص سواء في المرصد أو قصر علم الراصد، وينبغي أن يسعنا ما وسع سلف هذه الأمة وصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد امتثلوا الواجب وهو العمل برؤية الهلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» رواه البخاري ومسلم ، وعدّ الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله الجزم بعدم إمكانية رؤية الهلال ومتابعة الناس لهذا من الخطر العظيم والجرأة على دين الله ورسوله، ونبذ ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء الظهر " وقال رحمه الله :"لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة. قال الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾ انتهى كلامه

عباد الله : المسلم مطالب بالمداومة على الطاعات، والاستمرار في الحرص على تزكية النفس. ومن أجل هذه التزكية شُرعت العبادات والطاعات، وبقدر نصيب العبد من الطاعات تكون تزكيته لنفسه، وبقدر تفريطه يكون بُعده عن التزكية. لذا كان أهل الطاعات أرق قلوباً، وأكثر صلاحاً، وأهل المعاصي أغلظ قلوباً، وأشد فساداً. والصوم من تلك العبادات التي تطهِّر القلوب من أدرانها، وتشفيها من أمراضها..وصيام الست من شوال ، فرصة من تلك الفرص الغالية، بحيث يقف الصائم على أعتاب طاعة أخرى، بعد أن فرغ من صيام رمضان.وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إلى فضل صيام الست من شوال، وحثهم بأسلوب يرغِّب في صيام هذه الأيام.. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر» .