أحكام في ختام شهر الصيام

أحكام في ختام شهر الصيام - الخطبة الأولى

فهذا رمضانُ قد دنا رحيلُه، وأزِف تحويلُه؛ فهنيئًا لمن زَكت فيه نفسُه، ورقّ فيه قلبُه، وتهذَّبت فيه أخلاقُه، وعظُمَت للخير فيه رغبتُه، هنيئًا لمن كان رمضانُ عنوانَ توبتِه، وساعةَ عودتِه، ولحظةَ استقامتِه، هنيئًا لمن غُفِرت فيه زلّتُه، وأُقيلَت فيه عثرتُه، ومُحيت فيه خطيئته، وعفا عنه العفوُّ الكريم، وصفَح عنه الغفورُ الرحيم، هنيئًا لمن حقَّق جائزتَه ونال غنيمته، فأُعتِقت رقبتُه، وفُكَّ أَسره، وفاز بالجنة وزُحزِح عن النار. ويا ضيعةَ من قطَعه غافلاً ساهيًا، وطواه عاصيًا لاهيًا، وبدَّده متكاسِلاً متثاقِلاً متشاغِلاً. فيا مَن أغوَته نفسه، وألهاه شيطانه، وضيّعه قرناؤه، هذا شهرُ رمضانَ قد قارب الزوال، وأذِن بساعة الانتقال؛ فاستدرِك ما بقي منه قبل تمامِه، وتيقَّظ بالإنابةِ قبل خِتامه، وبادِر بالتوبة قبلَ انصرامه، فكم متأهِّبٍ لفِطره، صار مرتهنًا في قبرِه، وكم من أعدَّ طيبًا لعيده جُعِل في تَلحِيده، وكَم من خاطَ ثيابًا لتزيينه صارت لتكفينه، وكم من لا يصوم بعدَه سِواه. ويا من قُمتم وصمتم، بُشراكم رَحمةٌ ورِضوان وعتقٌ وغُفران؛ فربّكم رحيم كَريم، جوادٌ عظيم، لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملاً، فأحسِنوا به الظنَّ، واحمدوه على بلوغ الختام، وسلوه قبولَ الصيام والقيام، وراقبوه بأداءِ حقوقه، واستقيموا على عبادتِه، واستمرّوا على طاعتِه، فشهركم قد ودَّع وحان الفراق.

أيّها المسلمون: ومِن لطيف حِكمة الله عزّ وجلّ وتمامِ رحمته وكمالِ عِلمه وجميل عفوِه وإحسانه أن شرَع زكاةَ الفطر عند تمامِ عدّة الصيام؛ طُهرةً للصائم من الرّفث واللغو والمآثم، وجبرًا لما نقَص من صومه، وطُعمة للمساكين، ومواساةً للفقَراء، ومعونةً لذوي الحاجات، وشكرًا لله على بلوغ ختامِ الشهرِ الكريم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أدّاها قبلَ الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومَن أدّاها بعدَ الصلاة فهي صدقة من الصدقات. أخرجه أبو داود وابن ماجه.

وتلزم الإنسانَ عن نفسِه وعلى كلّ من تجب عليه نفقتُه من الزوجة والأولاد والأبوين ، ومقدارُها عن كلّ شخص صاعٌ من بُرّ أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط أو مما يقتاته الناس، كالأرز وغيره، وتجب على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه. فمن أدركه غروب شمس ليلة العيد وهو حيٌّ مسلم وجبت عليه، ومن مات قبل الغروب أو ولد بعد الغروب لم تجب عنه. ويستحب إخراجها عن الجنين الذي في البطن. لفعلِ عثمان رضي الله عنه ولا يجب. ومن أخرجها نقودًا أو قيمَة أو كسوة لم تجزئه في أصحّ قولَي العلماء؛ لعدوله عن المنصوص عليه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين جاز. وتُعطى فقراءَ المسلمين في بلدِ مخرِجِها، ويجوزُ نقلها إلى فقراءِ بلد أخرى أهلُها أشدّ حاجة، ولا بأسَ أن يوكِّل من يخرجُها عنه ، ومن أخّرها عن وقتها عامدا أثم وعليه التوبة وإخراجُها فورًا، وإن كان ناسيًا فلا إثمَ عليه ويخرِجها متى ذكر. ولا تُدفع لكافر، ولا حرَج في إعطاءِ الفقير الواحد فطرَتين أو أكثر. فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها كاملةً غيرَ منقوصة، واختارُوا أطيَبها وأنفَسَها وأنفعها للفقراء.

عباد الله: ويُشرع التكبير من غروب الشمس ليلةَ العيد إلى صلاةِ العيد في المساجِد والأسواق والمنازل والطرقات، مسافرين أو مقيمين، ولتكبِّر النساء سرًّا ، تعظيمًا لله سبحانه وتعالى، وشكرًا له على هدايته وتوفيقه، قال تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (حقٌّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا)

أحكام في ختام شهر الصيام - الخطبة الثانية

 

الحمد لله

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، لا ربّ غيره ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه.

أيها المسلمون: صلاةُ العيد من أعلام الدين الظاهرة وشعائره العظيمة، يستحب الخروج لها رجالا ونساءً، بل ذهب بعض أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره إلى وجوب الخروج لصلاة العيد، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذوات الخدور، فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.

فاخرجوا إليها متطيِّبين متجمِّلين متزيّنين، ويخرج النساء إلى صلاةِ العيد، حتى الحُيَّض يشهَدن بركةَ ذلك اليوم ودعوة المسلمين، ويخرُجن متستّرات محتشمات، غير متطيّبات ولا متبرّجات، ولا يلبسن ثوبَ فتنة ولا زينة. ويسنّ الأكل يوم العيد قبلَ الخروج للصلاة ، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يومَ الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترًا. أخرجه البخاري.

يحرم صيامُ يومي العيدين لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر. رواه مسلم.

ويستحب إتيان المصلى ماشيًا إن تيسر ذلك، فقد أخرج الترمذي من قول علي رضي الله عنه: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا).

عباد الله : إذا كان الشهر قد وَدّع وأناس في غيّها لم تَرجع فمتى تكون اليقظة؟ ومتى يكون الرجوع؟

ألا من لقلب في الهوى غير منتهٍ *** وفي الغيّ مطواع وفي الرشد مكره

أشــاوره في توبـة فيقول: لا *** فإن قلت: تأتي فتنة قال: أين هي؟

أيها المسلمون، أكثروا الاستغفار في ختام شهركم، قال الحسن رضي الله عنه: "أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة"، وقال لقمان لابنه: "يا بني، عوّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلا"