استقبال العشر الأواخر

استقبال العشر الأواخر

الخطبة الأولى

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ

أيها المسلمون : إنكم في شهرُ المرابح بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، فلا ترى إلا عابداً يركع، وقارئا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه وعينه تدمع، فاحمدوا الله أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه.

 أيها الصائمون، إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسة الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد كان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. متفق عليه

أيها المسلمون: هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، فتذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة والخماصة، ﴿وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَـٰنِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ﴾ وأغيثوا الجائع والمضطر،قال صلى الله عليه وسلم: «يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» أخرجه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة صدقة في رمضان» أخرجه الترمذي

عباد الله : على المرأة المسلمة إذا شهدت العشاء والتراويح أن تجتنب العطور والبخور، وما يثير الفتنة من ملابس الزينة المزخرفة أو غيرها، والتي تستميل نفوس ضعاف الإيمان، وتغري بها أهلَ الشر والفساد، وتبلبِل من في قلبه مرضٌ. وعليها أن تجتنب الخلوة بالسائق الأجنبي لما في ذلك من النتائج التي لا تُحمد عقباها، ولا يُعرف منتهاها، فعن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تتطيّب تلك الليلة»، وفي رواية: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباًً» رواهما مسلم وعن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل، فقيل لعمرة: نساء بني إسرائيل مُنعن من المسجد؟ قالت: نعم. أخرجه مسلم ، وصلاتهن في قعر بيوتهن خيرٌ لهن، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن» أخرجه أبو داود

أيها المسلمون: احذروا ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ أشرار لا يبالون ذماً، ولا يخافون لوماً، وآمنون لا يعاقَبون يوماً، ومجرمون لا يراعون فطراً ولا صوماً، عدواناً وظلما، فيا مطلقي النواظر في محرمات المنظور، ها أنتم في خير الشهور، فحذار حذار من انتهاك حرمته، وتدنيس شرفه، وانتقاص مكانته، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» أخرجه البخاري ، فطوبى لمن تركوا شهوةً حاضرة لموعد غيب في الآخرة، لم يرَوه ولكنهم صدَّقوا به، ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ .

فيا عبد الله : يامن ألف الذنوب وأجرمَا، يا من غدا على زلاته متندمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحب أن يجود ويرحمَا، وينيل التائبين فضلَه تكرماً، فطوبى لمن غسل في هذا الشهر درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوْت الأوبة. يا أسير المعاصي، يا سجين المخازي، هذا شهر يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويتجاوَز عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.

الخطبة الثانية

 

الحمد لله

أيها المسلمون، مضت أكثر أيام شهركم، وانقضت لياليه شاهدة عليكم بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، ولئن مضى من شهركم الكثير فقد بقي فيه خير وفير، بقيت من شهركم العشر الأواخر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتفي بها أيما احتفاء، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص في العشر الأواخر من رمضان على الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل. فالمعتكف ذكر الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.

عباد الله، إن مما يزيد العشر الأواخر فضلاً وبركة أن فيها ليلة القدر، وهي ليلة عظيمة شريفة ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في هذه البواقي من ليالي الشهر، أحيوها بالعبادة، وأكثروا فيها من الصلاة والأذكار والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، كما كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يفعل، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» رواه الترمذي وغيره.

عباد الله، ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، يسمع الخطاب، ويرد الجواب، ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غدًا بأعمالكم، فهل ترحل حامدة لصنيعكم أم ذامة تضييعكم؟!

يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجداً، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعداً، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» متفق عليه .