أتاكم رمضان

أتاكم رمضان - الخطبة الأولى

فيا له من فضلٍ عظيم، وعطاء جسيم، من ربٍّ كريم، وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته، يعفو ويصفَح، ويتلطَّف ويسمَح، وبتوبةِ عبدِه يفرَح ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ «يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النّهارِ، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها» .

أيّها المسلمون: هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها، وحلَّ زمانها، ونزل أوانُها، فاقطعوا حبائلَ التسويف، وهُبّوا مِن نومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، وحاذِروا غوائلَ الشيطان، ولا تغترّوا بعيشٍ ناعم خضِلٍ لا يدوم، وبصِّروا أنفسَكم بفواجِعِ الدّنيا، ودواهِمِ الدهر وكوارثه، وتقلُّب لياليه وأيّامه، وتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم، وفادحات الجرائم، وورطةِ الإصرار، توبوا على الفورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال ربّه: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا فقال: ربّ، أذنبتُ آخر فاغفِره، فقال: أعلِم عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكثَ ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ آخرَ فاغفِره لي، فقال: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي» . متفق عليه

أيّها المسلمون: توبوا من قريبٍ، وبادِروا ما دمتُم في زمنِ الإنظار، وسارِعوا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، فالعُمر منهدِم والدَّهر منصرِم، وكلُّ حيّ غايتُه الفَوت، وكلّ نفسٍ ذائقةُ المَوت، ومن حضَره الموتُ ، لم تُقبَل منه توبةٌ ولم تنفَعه أوبة ﴿وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ .

قدِّم لنفسِك توبـةً مــرجوَّة *** قبل المماتِ وقبل حبسِ الألسن

بادِر بها غَلقَ النّفـــوس فإنها *** ذخرٌ وغُنـم للمنيـب المحسِنِ

عباد الله : أتاكم شهرُ الغفران، والعطاءِ والرّضا، والرأفةِ والزُّلفى، أتاكم شهرُ الصّفح الجميلِ، والعفوِ الجليل، شهرُ النّفَحات، وإقالةِ العثرات، وتكفيرِ السيّئات، فليكُن شهرُكم بدايةَ مَولدِكم، وانطلاقةَ رجوعِكم، وإشراقَ صُبحكم، وتباشيرَ فجركم، وأساسَ توبتِكم، ومن لم يتُب في زمنِ الخيرات والهبات فمتى يتوب؟! ومَن لم يرجِع في زمَن النّفحات فمتى يؤوب؟! صعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فقال: «آمين، آمين، آمين، فقيل: يا رسولَ الله، إنك صعدتَ المنبرَ فقلت: آمين، آمين، آمين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: من أدركَ شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، قلتُ: آمين» أخرجه ابن خزيمة

أيها المسلمون : رمضان  شهر الصدق والرفق، رقاب تعتق، وأياد تتصدق، باب الجود في رمضان مفتوح، والرحمة تغدو وتروح، والفوز ممنوح، وفيه ترتاح الروح، فهنيئاً لمن لله صامه، وترك فيه شرابه وطعامَه، وبشرى لمن قامَه، واتبع إمامَه. القلب يصوم في رمضان، عن اعتقاد العصيان، والعين تصوم عن النظر الحرام، فلا يقع بصرها على الآثام ،خوفاً من الملك العلام.  والأذن تصوم عن الخنا، واستماع الغنا، فتنصت للذكر الحكيم، والكلام الكريم. واللسان يصوم عن الفحشاء، والكلمة الشنعاء، واليد تصوم عن أذية العباد، ومزاولة الفساد، والظلم والعناد، والإفساد في البلاد. والرِجل تصوم عن المشي إلى المحرّم، فلا تسير إلى إثم ولا تتقدّم . ولشهر رمضان وقار فلا سباب ولا اغتياب، ولا نميمة ولا شتيمة ، ولا بذاء ولا فحشاء، وإنّما أذكار واستغفار، واستسلام للقهار.

عباد الله : هذا شهر الآيات البينات، وزمن العظات، ووقت الصدقات، وليس لقراءة المجلات، والانشغال بالمساجلات، وقتل الأوقات، والتعرض للحرمات. فسلام على قوم تراهم في صلاتهم خاشعين، ولمولاهم خاضعين. فسبحان من جاعت في طاعته البطون، وبكت من خشيته العيون، وسهرت لمرضاته الجفون. ما أحسن الجوع في سبيله، ما أجمل السهر مع قيله، ما أبرك العمل بتنـزيله، ما أروع حفظ جميلة.  فأقبِلوا على الله بتوبةٍ نصوح ،وإنابة صادقة، وقلوبٍ منكسرة، وجِباه خاضِعة، ودموعٍ منسكِبة. اللهم .....................

الخطبة الثانية

 

الحمد لله :

هذا الشهر المبارك موسم خير وعبادة، وفي شهر رمضان تتضاعف همة المسلم للخير وينشط للعبادة أكثر، ويقبل على ربه سبحانه وتعالى رجاء رضاه مغفرته، وربنا الكريم تفضل على المؤمنين الصائمين فضاعف لهم المثوبة وأجزل لهم العطاء، فهو موسم تكفير السيئات ورفعة الدرجات .

عباد الله : إن الصيام من أعظم الأعمال في هذا الشهر الكريم. والصيام طريق إلى الجنة وباب من أبوابها، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن للجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه أحد غيرهم».  والصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: رب منعته الشراب والطعام في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعَان» رواه أحمد  ، وصيام شهر رمضان خصوصاً يمحو الذنوب ويكفر السيئات ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات مابينهن ما اجتنب الكبائر».

واعلموا أن من أجل الأعمال وأعظمها في رمضان، صلاة التراويح مع الإمام حتى ينصرف، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم نادباً أمته إلى قيام الليل «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»، وقال صلى الله عليه وسلم في قيام شهر رمضان على وجه الخصوص: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقال عن مزية القيام مع الإمام في صلاة التراويح: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» .

عباد الله : أما آن للعصاة أن ينغمسوا في نهر الصيام، ليطهروا تلك الأجسام من الآثام. ويغسلوا ما علق بالقلوب من الحرام ، أما آن للمعرضين أن يدخلوا من باب الصائمين، إن رمضان فرصة العمر السانحة، وموسم البضاعة الرابحة، والكفة الراجحة. فاغتنموا أيامه، وسارعوا إلى مغفرة ربكم ورضوانه .