أسباب إزالة الهموم

أسباب إزالة الهموم - الخطبة الأولى

إن من أكثر أمراض العصر انتشارا وفتكا هـذا الهم والغم الذي يستولي على كثير من الناس، وما من أحد من البشر إلا.. ولكن مقل ومستكثر، وفرق بينهم في أسباب همه وغمه، وإن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أصابه همّ عظيم وغمّ في سبيل الله -عز وجل- لأجل الدعوة إلى الله، اجتمع عليه تكذيبهم واستهزاؤهم وتعييرهم وشتمهم وقلة أصحابه وتباطُؤ الوحي عنه وتأخر جبريل فلم يره، وأرجف به الكفار فقالوا: ودّعه صاحبه وقلاه وأبغضه. يقول لعائشة واصفا بعض ما كان يأتيه في سبيل الله عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام: «كان يصيبني الهم فلا أستفيق إلا في قرن الثعالب» في هـذه الظروف أنزل الله عليه سورتين، الأولى قوله تعالى ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ تأملوا في براعة الإستهلال، وفي الإرتباط بين موضوع السورة وهـذا القَسَم، بعض أهل الهم لا ينزاح همه إلا إذا ذهب عنه الليل الثقيل الطويل وطلعت شمس الضحى، وبعضهم يكون له في النهار سبحا طويلا وهموما وغموما وأشغالا فإذا جاء الليل، وليس أي ليل؛ ولكنه الليل الساج، ومعنى الساج الممتلئ هدوءًا وسكينة وسلاما وراحة في هـذا الليل الساج يجد كثير من أصحاب الهموم سلوتهم وخاصة قُوّام الليل، فإنهم لا يجدون الإنشراح إلا بالليل إذا سجى.

قال الله مقسما: ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ على ماذا يقسم ربنا؟ ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ إن هـذه الأولى في أسباب انشراح الصدر وهي أعظمها:الثقة بالله والرضى عنه وحسن الظن به والتعرف عليه بأسمائه وصفاته، وأنه لا يخذل أوليائه ولا يتركهم ولا يتخلى عنهم؛ بل يدافع عنهم ويغضب لهم ولو امتحنهم وابتلاهم، وتأمّلوا في اللطف والود والرأفة في قوله ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ وما أبغضك وما قلاك إنها بلسم على قلوب المهمومين، وخاصّة أهل الهم لأجل الله، الذين اشتد عليهم التعيير والتكذيب والاستهزاء وقلة الأعوان.

فيا أيها المهموم تذكّر هـذه الآية دائما ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ والثانية تجتثّ الهم اجتثاثا بعروقه من القلب ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾ إنّ الهموم والغموم هي في هـذه الدّار، وأما الآخرة فإذا دخل الأتقياء جنة ربِّهم قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ فالدنيا ليست بشيء همومها وغمومها ومصائبها وما فات منها وما جاء، وما أقبل منها وما أدبر ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ فمن تعلّق بالآخرة زال همه وامتلأ قلبه سكينة وسلامًا وتعلقا بالله وبوعده ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ إذا فاتك شيء من الدّنيا فأمامك ما هو أعظم بما لا مقارنة، إن فاتك غنى أو منصب أو تمكين  فأمامك جنة عرضها السموات والأرض ، ثم قال ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ تذكر منة الله عليك، فإن تذكر النعمة يزيل الغم؛ لأنّ أكثر الناس يغتم ولو رأى ما بيده من النعمة لعرف أن ما فاته لا يساوي عُشر ما في يده؛ ولكنه الشيطان يعلّم الإنسان الجحود ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ وأيضا إذا أصابك الهم فتذكّر بعض عباد الله الذي همهم هم مقيم ليس ساعة ولا يوما، وأعظمهم الضالون عن سبيل الله، فاحمد ربك على الهداية، فإن قوما من بني آدم يصيبهم من الهمّ والاكتئاب ما يؤدي بهم إلى الانتحار حيرة وقلقا ، وأنت وجدك ربك ضالا فهدى، هداك للإسلام هداك للسنة قال الله: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ

ثم قال الله لنبيه: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ إذا أردت أن يزول الهم والغم فعليك بالإحسان للخلق، الإحسان للأيتام والضعفاء والمساكين، عمل الخير، الدعوة إلى الله، التحديث بنعمة الله وأعظمها الإسلام والسنة، إنك إن أشغلت نفسك بذلك ذهب الهم عنك ذهابا كليا، إذا لم تقهر اليتيم ولم تنهر السائل الضعيف المسكين، وتحدِّثت بنعمة ربك في كل مكان، وأول من تحدثه نفسك، فيا لها من سورة ما أعظمها ، ويالها من منة لمن تدبرها.

 الخطبة الثانية

الحمد لله:

ثم قال الله في أختها ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ إنّ من أعظم أسباب ذهاب الهم وانشراح الصدر الاعتقاد واليقين أن الذي يشرح الصدر هو الله، وأنه أمر إلهي، ومن أراد أن يجرِّب غير طريق الله فإنه لا يزيد الهم إلا همّا، إن عبادا من عباد الله يريدون أن يقضوا على الهموم بالسّفر إلى بلاد الكفار، بالنظر في القنوات والمواقع، بالمسكرات، بالمخدرات، بالغناء، بالفجور، والثانية وهي من أعظم أسباب الغم: الذنوب والمعاصي هي سبب الكئابة ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ إذا كان وزره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أنقض ظهره يحس بحمل ثقيل على ظهره من وزره فكيف بأوزارنا! فتخلص منها بالاستغفار.

والثالثة قال تعالى ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ لا تستشرف لشيء من الدنيا، فإنه بيد الله، الذي رفع الذكر والصيت والجاه والشهرة لنبيينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصبح ينادى باسمه في الآذان خمس مرات كل يوم وليلة هو الله ، فلا تستشرف لشيء من الدنيا لا المال ولا الجاه ولا الشهرة ولا الأتباع، لا تستشرف له بقلبك، فإنك إن فعلت إن حصلته وُكلت إليه ولم تُعَن عليه، وإن لم تحصّله أصابك من الهلع والهم ما لا قبل لك به، توكّل على الله وارض بما قسم الله لك، تكن رضيا، ولا تتمنى غير ما قدّره الله، قال الصحابة: أصبحنا ما لنا سرور إلا في مواضع القدر، لا نقول لشيء قضاه الله : ليته لم يكن، ولا لشيء لم يقضه: ليته كان، وإنما مع أقدار الله، وهو أعلم بمصالحنا منا ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾.

 ثم أتى الله بهـذه الآية قال الله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ نحمد الله على ذلك، نحمد الله على الإسلام ، اليسر لا تدري من أين يأتيك يرزقك الله من حيث لا تحتسب، تنظر على اليسر من هذا الطريق فيأتي من هذا الطريق، تفقد الأصحاب فيرزقك الله أولادا صالحين يغنوك عن الأصحاب والأصدقاء، يأتيك الهم من زوجة فيبدلك الله خيرا منها.

فيا عباد الله ثقوا بالله، أحسنوا الظن بالله، تفاءلوا بالخير تجدوه، كونوا مؤمنين أقوياء وإن أصابكم شيء فلا تقولوا: لو، ولو. ولكن قولوا: قدَّر الله وما شاء فعل. واعملوا ولا تعجزوا واستعينوا بالله .ثم قال الله ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾ يا عباد الله هـذه من أعظم أسباب الهم: الفراغ، البطالة، قال عمر وابن مسعود: إنا لنمقت الرّجل أن نراه سمينا فارغا لا من عمل الدنيا ولا من عمل الآخرة؛ فإذا فرغت من عمل دنياك فانصب لعمل آخرتك، وإذا فرغت من عمل آخرتك فانصب لعمل دنياك، وإذا فرغت من عمل آخرة فانصب لعمل آخرة آخر، وهكذا لا تفرغ، لا تفرغ يداك من العمل فإنّ الفراغ يأتي بالهم  والاكتئاب .