الأمن ضرورة

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمن ضرورة

أمّا بعد: فلقد فرَض الله الفرائضَ وحرَّم المحرَّماتِ وأوجب الحقوقَ رِعايةً لمصالحِ العباد، وجعل الشريعةَ غِذاءً لحِفظ حياتِهم ودواءً لدَفع أدوائهم، وجاءت دعوةُ الرّسل بإخلاصِ العبادةِ لله وحدَه ، ومَقَتت ما يصرِف القلوبَ عن خالقِها، فكانت أوَّل تضرُّعات الخليل عليه السلام لربّه جل وعلا أن يبسُطَ الأمنَ على مهوى أفئِدَة المسلمين فاستجاب الله دعاءَه ،قال سبحانه: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا

وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح نحتَهم بيوتَهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾  وأنعمَ اللهُ على سبَأ وأغدَق عليهم الآلاء المتتابعةَ وأسكنهمُ الدّيار الآمنة، فقال جل وعلا: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ووعد الله نبيَّه محمَّدًا وأصحابه بأداء النُّسُك في أمان ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ﴾ والأمن من نعيمِ أهل الجنة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ

أيّها المسلمون، لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ وحفِظت العقول وطهَّرتِ الأموال وصانت الأعراض وأمَّنت النفوس. ودعا الإسلامُ إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صفوفِ أفراده، وأمر بإخفاء أسباب الفزَع في المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا» رواه أحمد.

عباد الله: بالأمن والإيمان تتوحَّد النفوسُ، وتزدهِر الحياة، وتغدَق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتُتَلقَّى العلومُ من منابعها الصافية، ويزدادُ الحبلُ الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثَّق الروابطُ بين أفراد المجتمع، وتتوحَّد الكلمةُ، ويأنس الجميعُ، ويتبادل الناسُ المنافع، وتُقام الشعائر، وتقُام حدود الله في أرض الله على عباد الله.

وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد ويمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ، و باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع. يقول معاوية رضي الله عنه: "إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمّوا بها، فإنها تفسِد المعيشةَ، وتكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال".

ولو قلَّبتَ البصرَ في الآفاقِ لوجدتَ الأمنَ ضرورةً في كلّ شأن، ولن تصلَ إلى غايةِ كمالِ أمرٍ إلا بالأمن، بل لن تجدَ مجتمعًا ناهضًا وحبالُ الخوف تهزّ كيانَه. وانظروا ما يحدث اليوم في تونس ومصر وليبيا وغيرها ممن بدلت لباس الأمن بالخوف ، كانت تطمع في زيادة معاش ، واليوم لا أمن ولا معاش.

أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة تواجه اليومَ خصاماً بعنف ، وحرباً بجبروت، يقودها قومٌ أحداث، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ ، أشعلوها الدنيا نيرانا، وأنَّى يُحقِّق هؤلاء سلاماً. أحداثٌ تُفتعَل، وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، أدَّى إلى تفجّر العنف وانعدام الأمن وانتشار الخوف واختلال الأوضاع في كثير من الأصقاع والبقاع، ولاشك بأن الدافع الكبير لكثير من الرعاع ، هو قلة ذات اليد ، واستئثار السلطان بالمناصب والأموال ، وتجويع الشعوب.

عباد الله: نحن أمة رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، ارتضت حكم الله وأذعنت له، وذلت لجبروته وخضعت له، لا تحركها العواطف، ولا تسوقها الأهواء، ولا تتقدم بين يدي الله ورسوله، لا تقدم ما أخر الله ، ولا تؤخر ما قدم، لا تحل ما حرم ولا تحرم ما أحل، تتلمس  منهج الإسلام في العبادة، كما ترتضيه في الحكم والتحاكم، وتسير على خطاه في التغيير والتبديل والخروج على الولاة ، فيا من تتسابقون اليوم إلى المظاهرات وتزعمون أنكم بذلك على الهدى والخير ، أعطونا دليلا من كتاب أو سنة يجيز لكم فعل ذلك، بل هاتوا لنا شواهد من التاريخ تبرهن صحة مساركم، وصواب طريقتكم، بل إن الواقع المشاهد يظهر عكس ذلك ، قلبوا أنظاركم في مصر وتونس ، وفي عمان وليبيا يرتد إليك الطرف خاسئا وهو حسير, وتجزمون بأن من خالف سنة الله ،  فإنه إلى خسار وإن أوهم نفسه بعكس ذلك.

الخطبة الثانية

 

الحمد لله

نعمةٌ جليلة ومنةٌ كبيرة، هي مطلب كٌلِ أمة، وغاية كل دولة، من أجلها جندت الجنود، ورصدت الأموال، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب، إنها نعمة الأمن ، فهي منّة إلهية ونفحة ربَّانية، امتن الله به على عباده في مواضع كثيرة من كتابه كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .

قال قتادة رحمه الله في هذه الآية: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونا وأعراه جلودًا وأبينه ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردي في النار، يؤكلون ولا يأْكلون، والله ما نعلم قبيلًا من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشرّ منزلًا منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكَّن به في البلاد ووسَّع به في الرزق وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس".

إن أمرًا هذا شأنه ونعمةً هذا أثرها لجديرةٌ بأن نبذل في سبيلها كلَّ رخيص ونفيس، وأن تُستثمَرَ الطاقات وتُسخَرَ الجهودُ والإمكانات في سبيل الحفاظ عليها وتعزيزها، وتوحيد رب العالمين وإفراده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له من أعظم ما يحقق الأمن التام ويوطده ويحفظه ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾. 

عباد الله : إذا تخلى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن، وادلهم ظلام الخوف والقلق، ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

ونحافظ على الأمن بالتمسُّك بالكتابِ والسنة والعناية بالعلم الشرعي، فالعلم عصمةٌ من الفتن، والتعليم الشرعيّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان، قال ابن القيّم رحمه الله "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلّة قلّ الشر في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرّ والفساد".

ونحافظ على الأمن بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي صِمام أمان يمنع الشرور والآفات عن المجتمعات وبه يحصل العز والتمكين، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾.

أيها المسلمون: إن من الحكمة الواجبة أن نتجنب العاطفة الهوجاء وردود الأفعال المتهورة، متسلحين بالعلم والحلم والصبر، مشتغلين ببناء النفس ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا نقحم أنفسنا في أمور لا تحمد عقباها، ولا تعلم شرعيتها وجدواها. ولا بد أن يحذر الشاب الغيور من تعجل الأمور، أو الحكم على المواقف والأحداث دون الرجوع إلى العلماء الراسخين الصادقين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء عن دفع السفهاء وهذا شأن الفتن كما قال تعالى ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.