نعمة الصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

نعمة الصلاح

أيها المسلمون، يفتح الله على عبادِه نعمًا متوالية باللّيل والنهار، ينال بفضلِه بعض عباده شيئًا منها، ويُحرم بحكمَته وعدلِه منها آخرون، ونعمةٌ الصلاح والهداية مَنْ نالها فهو السعيد، ومَن فقدها توالَت عليه الحسرات، والله يصطفي مَن يشاء من عبادِه لها ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ولا يمنحها إلا لمن يحبّ.

لا ينفع في حصولها نسَب، فمَنع منها أبا لهب القرشيّ، ووهبها لبلالٍ الحبشيّ، ولا يُجدي في نوالها مَال، حُرم منها قارونُ ذو الكنوز، ووفَّق لها أبا هريرة الذي يسقط في الطرقاتِ من الجوع، ولا يُدني منها نسَب، فأبعد عنها فرعون، ومَنَّ بها على جارية صغيرة سألها النبي صلى الله عليه وسلم «أين الله؟» قالت: في السماء.

ولعظيم قدرها جعلَها سبحانه بيده وحدَه: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ وأنزل الكتب السماويّة من أجلها، قال جل شأنه: ﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ﴾ .

والرّسل دعوا ربهم أن يديمها عليهم، فقال يوسف عليه السلام: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ وقال سليمان: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ .

وأمر الله جميعَ الرسل بها: ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ ، وسأل الأنبياء ربَّهم أن يمنحَها لذرياتهم، فقال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ، وقال زكريا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ .

وكلّ مُصلٍّ يدعو ربَّه في كل ركعة من صلواته أن يكونَ من أهلها ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ .

والشابّ الذي نشَأ في طاعةِ الله يُظلُّه الله تحتَ ظلّه، والمرأةُ تتميّز على غيرها بالدّين، «فاظفر بذات الدين تَرِبتْ يداك» متفق عليه.

ولا نجاةَ من الهلاكِ إلا بالصّلاح والإصلاح، قال جلّ شأنه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ومِن حِكم ِالبعث والنّشور مجازاةُ الصّالحين على ما قدّموا، قال عزّ وجلّ: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ .

وأوّل كلامِ أهلِ الجنة إذا دخَلوا الجنةَ شكرُ اللهِ سبحانه على نعمةِ الهداية: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ ، والصالحون هم خيرُ الخلق عند الله، قال جل شأنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ ، والملائكة تدعو لمن استقامَ على هذا الدين، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، وكلُّ مصلٍّ يدعو في تشهّده لكلّ صالح بالسّلامة من المكارهِ والآفاتِ والشرور يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: «فإذا قالها أصابت كلَّ عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض» متفق عليه.

والله يتولى أمرَه الصالح من عباده ويحفظَه، وتُكتب له المحبّة في الأرض وفي السماء، وحياتُه في الدّنيا طيِّبة، ورزقه بفضل الله مُيَسَّر، ورحمة الله تتنزَّل عليه؛ قال جلّ شأنه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ .

وصلاحُ العبدِ يمتدّ إلى الذرية كما قال سبحانه عن اليتيمين: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ ، وصلاح الآباء ينال الأبناءَ، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث -وذكر منها - أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» رواه مسلم.

والصالحُ موعود بالمغفرة والأجر الحسَن وبجنات النعيم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «قال الله عز وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لاَ عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعت، ولا خطَرَ على قَلبِ بشَر» متفق عليه.

أيّها المسلمون، التمسّكُ بالدين وصيةُ الله لرسوله: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، وفي زمن الفِتن وكثرة الشبهات والشهوات يظهر أثرُ الصلاح في السلامةِ منها، ومَنْ منَّ الله عليه بصلاحِ نفسِه فعليه أن يدعوَ غيرَه إلى هذا الخيرِ العظيمِ، وأعظمُ ما يُدْعَى إليه توحيدُ الله سبحانه إذ لا صَلاحَ لعبدٍ إلا به، سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم : «أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: إيمانٌ بالله» متفق عليه.

وعمارةُ المساجد بالصلاة وتلاوةِ القرآن وكثرةِ الذكرِ ولزومِ حِلَق العِلم فيها مِن أسباب الإعانةِ على الهِداية، قال جلّ شأنه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ ، ودعاءُ الله سبحانه وطَلبُ الهداية منه مِن أقوى الأسبابِ في حصولها، والصُّحبةُ الصالحة خيرُ معينٍ على الطاعات، وتدبُّر سِيرِ الأنبياء يحدو بالقلب إلى الآخرة، ومَن تمسَّك بدينِه زادَه الله من الهدَى والتقَى، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ .

الخطبة الثانية :

الحمد لله:

وشرطُ قبولِ العمَل الصالح الإخلاصُ فيهِ لله وأن يكونَ موافقًا لهديِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا النَّهج القويم سار الصحابةُ والتابعون متمسِّكين بقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» رواه مسلم. ومَن لم يكن عملُه خالصًا صَوابًا فإنَّ عملَه يَضْمحِلُّ.

والمسلِم يحبّ ربَّه فيفرد عباداته كلَّها لله، ويحبّ نبيَّه عليه الصلاة والسلام فيطيعُ أمرَه ولا يزِد على شرعه شيئًا، موقنًا بأنَّ محبة الله ومحبّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم هي في طاعته كما قال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ .

وصلاحُ المجتمَع باستقامةِ الرجالِ والنّساء فيه على دينِ الله، ومِن صلاح المرأةِ سترُها وعفافُها وقنوتها لربِّها ولزومُ حجابها، فهو عبادةٌ من أجلِّ العباداتِ لها، والله سبحانه تولّى شأنَ المرأة لتبقَى مَصونةً محفوظَة، فقال عن حديثها:﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً﴾ ، وقال في إرشادِها في مِشْيتها: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ وأمرَها بعدَم إبداءِ زينتها كما أمرَها بسترِ وجهها فقال: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ ونهى الرجال عن النّظر إليها فقال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ .

فالتمسُّك بالدين طريق الجنة والحياة الطيِّبة، والأخذُ بسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم والعَضُّ عليها سبيلُ الفائزين. ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ .

عباد الله: يصلُح العملُ ويُرفع إلى الله بالإخلاصِ والمتابعَة، وإذا استقامتِ النفس على دين الله فثناء المرء على نفسِه بالصلاحِ مذموم، قال سبحانه: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ ، والمؤمنُ لا يرى عملَه الصالح كثيرًا، بل يستقله؛ لأنَّ نعَم الله عليه أجلُّ وأعظم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطَّرَ قدماه ويقول: «أفلا أكون عبدًا شكورا؟!» متفق عليه.

فاجتهدوا في امتثالِ أوامر الله واجتناب نواهيه والبُعد عن الشبهات.