فضل الحج وصوم عرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل الحج وصوم عرفة

عباد الله: اتقوا الله ـ تعالى ـ وأطيعوه، وحجوا بيته الحرام وعظموه، واتخذوا الشيطان عدوا وأغيظوه؛ بالمسارعة إلى الخيرات، والتوبة إلى الله من الزلات، وذكر الله في سائر الأوقات، والوقوف - إذا تيسر لكم - مع حجيج المسلمين في عرفات، فقد من حديث جابر عن نبيكم أنه قال: «إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقول الملائكة: يا رب! فلان كان يرهق - أي يقع في شيء من المعاصي - وفلان وفلانة، قال: يقول الله ـ عز وجل ـ: لقد غفرت لهم». قال رسول الله : «فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة».

وصح عن أنس قال: وقف النبي بعرفات وكادت الشمس أن تغرب فقال: «يا بلال! استنصت لي الناس ، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله ، فأنصت الناس، فقال: معشر الناس! أتاني جبرائيل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات ، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كثر خير الله وطاب.

وفي الموطأ بسند صحيح عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلاً أن رسول الله قال: «ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر».

عباد الله: لشهود هذه الفضائل الكبيرة وغيرها من المنافع الكثيرة، فرض الله عليكم الحج مع الاستطاعة، وجعله نافلة بعد الفريضة إلى قيام الساعة، فقال ـ سبحانه ـ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ . وقال ـ جل ذكره ـ: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ .

وصح عند (م) أن النبي قال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، وقال كما عند (حم): «الحج مرة، فمن زاد فتطوع»، وذلك كله من رحمة الله بالعباد ولطفه بهم في المعاش وفي المعاد.

عباد الله: الحج عبادة جليلة، وفريضة عظيمة، تشمل أنواعا من التقرب إلى الله ـ تعالى ـ في غاية من الذل والخضوع والمحبة له ـ سبحانه ـ، في أوقات ومناسك معظمة، ومواطن محترمة، يبذل المسلم من أجل شهودها النفس والنفيس، ويتجشّم الأسفار، ويتعرض للأخطار، وينأى عن الأوطان، ويفارق الأهل والأولاد والإخوان، كل ذلك محبة لله ـ تعالى ـ وشوقاً إليه، وطاعة له وتقرباً إليه، ولذلك يتكرم الله ـ تعالى ـ على عباده فيجازيهم على هذا الإحسان بالإحسان، الذي صحت به الأخبار، وفصلته الآثار.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». وفي الصحيحين أيضا عنه أن النبي قال: «من حج - وفي لفظ مسلم: من أتى - هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه» يعني نقياً من الذنوب.

وعند ( حم، ت، س، جه ) عن ابن مسعود عن النبي قال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».

عباد الله: في مناسك الحج والوقوف بمشاعره يتحقق للعبد - من الرغبة في الخير ونشاط الهمة في أنواع من الطاعات؛ من صلاة، وطواف وصدقات، وذكر، وتلاوة القرآن، وإحسان إلى الناس بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة - ما يرجى أن تضاعف عليه الأجور، وترتفع الدرجات، ويحط من الخطيئات، ما لا يدخل تحت حصر، ولا يحيط به وصف.

وقد صح عن النبي كما عند (حم، جه ) أنه قال: «صلاة في المسجد الحرام خير - وفي لفظ: أفضل - من مائة ألف صلاة فيما سواه»، فإذا كان هذا في الصلاة فيرجى أن تكون الأعمال كلها مضاعفة كذلك نظراً لشرف المكان وفضل الزمان وكمال الحال.

وعند قال النبي: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، وعنده أيضا قال: «من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» وفي (خ م) قال: «فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النَّعَم».

فاتقوا الله عباد الله، وهلموا لشهود تلك المنافع، وعظموا الرغبة إلى ربكم، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه.

الخطبة الثانية :

الحمد لله:

عبد الله: لقد مضى نصف أيام العشر فاغتنم بقية هذه الأيام سواء كنت حاجا أم لا، وغير الحاج ينبغي له العناية بها أكثر؛ لأنه قد فاته الحج، فليحرص أن لا تفوته العشر، فعليك بالتوبة والصلاة، والصيام والتكبير، والذكر والصدقة،وعليك بصلاة العيد واعتنِ بالأضحية، فإنها سنة أبينا ابراهيم عليه السلام. ثم لا تنس التكبير بعد الصلوات المكتوبات، وهي لغير الحاج تبدأ من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر، ويستمر الحاج وغير الحاج في التكبير إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ثم صيام يوم عرفة لغير الحاج. يكفر ذنب سنتين عند (م) أبي قتادة قال: قال رسول الله : «صوم عرفة يكفر سنتين» أي ذنب سنتين ماضية ومستقبلة. فإن لم تستطع أن تصوم أيام العشر فلا تحرم نفسك من صوم يوم عرفة، إلا أن صوم يوم عرفة خاص بغير الحجاج. ولذلك النبي يوم حجة الوداع وهو واقف بعرفات أفطر ولم يصم في (خ م) تقول أم الفضل رضي الله عنها زوج العباس بن عبد المطلب أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعاً تقول: "شككنا في يوم عرفة أن صام رسول الله قال: فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف يخطب بعرفات فأخذه فسم الله فشرب منه" .

فلا تحرم نفسك عبد الله من أن تشارك الحجاج فصم هذا اليوم، فإنه يوم ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ويباهي بعباده الصالحين الملائكة فيغفر لهم جميعاً إلا اثنين متشاحنين. وإن استطعت أن تصوم معه غيره فافعل فإن حفصة زوج النبي أم المؤمنين تقول كما عند (حم، ت، س ) : «أربع لم يدعهن رسول الله: صيام العشر -أي من ذي الحجة- وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتا الغداة -أي سنة الفجر-».

عباد الله: من فاته في هذا العام القيام بعرفة، فليقم لله بحقه الذي عرفه. ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هنا، وقد بلغ المنى. ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد، اللهم يسر للحجاج حجهم، وسهل أمورهم يا رب العالمين.