فتبارك الله

بسم الله الرحمن الرحيم

فتبارك الله

فلقد خلَق الله الخلقَ العجيبَ، والكونَ المهيب، دلالةً على ذاتِه وصفاتِه، وعظمَته وكبريائه، وكمال قُدرته، وجَليل آياته، لا يُوصَف بشيءٍ من مخلوقاتِه، بل صفاتُه قائمةٌ بذاتِه، كلُّ شيءٍ تحتَ قهرِه وتسخيره، وكلّ شيءٍ تحتَ تدبيره وتقديرِه، ملك كلَّ شيء بعزِّ جلاله، وعظمَة سلطانه، المتصرِّف في خلقه بما يشاء، المتفرِّد بالدوام والبقاء، المالك للثوابِ والجزاء، الواحد الأحد، لا مُغالب له ولا ممانِع، ولا معقِّب لحكمِه ولا منازع، ولا مناهِض لأمره ولا مدافِع، قهّر كلَّ شيءٍ بقدرته، ودان كلُّ شيءٍ لعظمَته، الخالقُ البارئ المصوّر، المدبر المسخِّر المقدر، ليس له من خلقه نظيرٌ يساميه، ولا قريبٌ يدانيه. وهو الذي مدَّ الأرض، ومهَّدها في الطول العَرض، وثبتها بالجبال الراسِية، وشقَّ فيها الأنهار الجارية، وجعلها فراشًا ومعاشًا، يتردّد الناس في أقاليمها وأرجائها، ويمشون في مناكبِها وأقطارها، ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ هذه سبِخةٌ مالحة، وهذه طيبةٌ صالحة، وهذه مرملِة، وهذه محجِرة ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾ .

على عرشه استوى، وأنبَت الأرض والثرى، وفلق الحبَّ والنوى، ، وكان الثمر حطبًا، ثم صار بقدرته عِنبًا ورُطَبا. خلق السماءَ بلا وتَد، ورفعها بلا عمَد، وجعَلها عاليةَ البناء، بعيدةَ الفِناء، مستويةَ الأرجاء، مكلَّلةً بالكواكب في الليلة الظلماء، مزيَّنةً بالنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، فلا فروجَ ولا شقوق، ولا فطور ولا فتوق.

الشمسُ والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتقارضان، بأمره تكسف الشمس، وبإرادته يخسف القمر، يرسل الآيات، يخوف العباد ليحذروا من السيئات، الخالق الذي خلق الكواكبَ النيرات، والرياح المسخَّرات، والسحب الحاملات، والبحار الزاخِرات، والأجنَّة في بطون الأمهات، خلَق النارَ المحرِقة، والبحارَ المغرِقة ﴿وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ ، تسرَح في البحر العجاج، المتلاطِم الأمواج، إلى الأقاليمِ النائية، والآفاق القاصِية، تحمل المنافع، وتقلّ البضائع. وجعَل النجومَ بحسنها وضوئها هدايةً لسالِك القِفار، وراكب البِحار، ومواقيتَ للزروع والثمار.

خلقكم من نفسٍ واحدة، وصوَّركم فأحسَن صوركم، وجعَل لكم سمعًا تدركون به الأصوات، وبصرًا تحسّون به المرئيات، وجعَل لكم اللباسَ والرياش، ورزقكم من صنوف المعاش ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ .

عباد الله : لا أعظم ذنبًا، ولا أكبر جرمًا، ممن جعل لله ندًّا وضدّا، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» متفق عليه.

أيها المسلمون: من اعتَبر بمخلوقاتِ الله وآياته، لا يتعلَّق قلبه بأموات، ولا يرجو نفعًا أو يخشى ضرًّا من رُفات، بل يعلّق قلبه بمولاه الذي لا يكشف ضرَّ المضرورين سواه،فم يلجأ عند مرضِه وشدّته، إلى ساحرٍ أو كاهن أو مشعوِذٍ أو دجال، يفسد عليه دينَه وعقيدته، ولم يتعلَّق قلبه بحِلقٍ يلبسها، أو خيوطٍ يربطها، أو تمائم يعلِّقها، أو شاةٍ للجنّ يذبحها، بل يتوجَّه إلى الله بالطلب والدعاء، والتضرّع والرجاء، والمسألة والنداء ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.

الخطبة الثانية :

الحمد لله:

فمن تمكَّن وَقارُ الله وعظمَته وجلاله من قلبه لم يجترِئ على معاصيه، ولم يتوثَّب على مناهيه، وكيف يقدره حقَّ قدره ويعظِّمه حق تعظيمه ويوقره حقَّ توقيره من هان عليه أمره فعصاه وحقُّه فضيَّعه وتناساه وقدَّم على طاعةِ ربِّه هواه وآثر الدنيا على طلب رضاه؟! يستحي من الناس ولا يستحي من الله، ويخاف من نظرِ المخلوقين ويستخفّ بنظر الله، ويخشى الناسَ ولا يخشى منَ الله، ويطيع المخلوقين في معصيةِ الله.

إنّ تعظيمَ الله عزّ وجل مِن أجلّ العبادات القلبية وأهمّ أعمال القلوب التي يتعيّن ترسيخها وتزكيةُ النفوس بها، لا سيّما وأنّه ظهَر في زماننا ما يخالِف تعظيمَ الله تعالى مِن الاستخفاف والاستهزاءِ بشعائر الله، والتطاولِ على الثوابت, والتّسفيه والازدراء لدين الله.

إنّ الإيمان بالله ـ عبادَ الله ـ مبنيّ على التعظيم والإجلال له عزّ وجلّ، قال تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ قال المفسرون: "يتشقّقن مِن عظمةِ الله عزّ وجلّ".

منزلةُ التعظيم تابعة للمعرفة, فعلى قدرِ المعرفة يكون تعظيمُ الربّ تعالى في القلب، وأعرف النّاس به أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالاً, وقد ذمّ الله تعالى مَن لم يعظِّمه حقَّ عظمتِه, ولا عرَفه حقَّ معرفته، ولا وصفَه حقَّ صفته، فقال: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ .

فكِّر في النبات والشجر, والفاكهة والثمر، وفي البَحر والنّهَر، إذا طاف عقلك في الكائنات ونظرك في الأرض والسموات رأيتَ على صفحاتها قدرةَ الله, وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلقَ لسانك بـ"لا إله إلا الله"، وخضعت مشاعرُك لسلطانِ الله. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ .

عباد الله: إنّ هذا الجيلَ الذي صدّه عن السبيل الاستكبار, وعلاه الغرور, وأسكَرَه التّرف, وجعل كتابَ ربّه وراءه ظِهريًّا بحاجةٍ ماسّة إلى أن يعرف ربّه حقًّا، ويعظمه صدقًا, بتدبّر أسماء الله الحسنى، التأمّلِ في آياته، التفكّر في إعجازه، فمَن استيقَن قلبه هذه المعانيَ لا يرهَب غيرَ الله، ولا يخاف سِواه، ولا يرجو غيرَه، ولا يتحاكم إلاّ له، ولا يذلّ إلا لعظمتِه، ولا يحبّ غيرَه.

أمّا الذين يهجرون القرآنَ, ويرتكبون المحرمّات, ويفرّطون في الطاعات، أمّا الذين يتحاكمون إلى شرع غيرِ الله، ما قدروا الله حق قدره. الذين يسخرون من الدّين، ويحاربون أولياء الله, ويستهزئون بسنّة سيّد البشر, ما قدروا الله حقَّ قدره.