شهر التوبة

بسم الله الرحمن الرحيم

شهر التوبة

المؤمِن ليس معصومًا من الوقوع في الخطأ، وليسَ في منأى عنِ الهَفوة، ليس في معزِل عن الوقوعِ في الذنب، فعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسِي بيَدِه، لو لم تذنِبوا لذَهَب الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يذنِبون فيستغفِرون اللهَ فيغفِر لهم» وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدَمَ خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوّابون» أخرجه أحمد والترمذي.

عباد الله : التّوبةُ خضوعٌ وانكسَار وتذلُّل واستغفارٌ واستِقالَة واعتِذار وابتِعاد عن دواعِي المعصيةِ ونوازِع الشرِّ ومجالس الفِتنة وسُبُل الفساد وأصحابِ السّوء وقرَناء الهوى ومثيراتِ الشرِّ في النفوس. التوبةُ صفحةٌ بيضاء وصفاءٌ ونقاء وخشيَة وإشفاق وبكاء وتضرُّع ونداء وسؤالٌ ودعاء وخوفٌ وحياء. التوبة خجَل ووَجل ورجوع ونزوع وإنابةٌ وتدارك، نجاةٌ من كلّ غمّ، وجُنّة من كلّ معرَّةٍ وهمّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح وخيرُها ممنوح ما لم تغرغِر الروح، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أخطَأتم حتى تبلُغ خطاياكم السّماء ثم تُبتُم لتابَ الله عليكم» أخرجه ابن ماجه وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطِئون بالليل والنهار وأنا أغفِر الذنوبَ جميعًا فاستغفِروني أغفر لكم» أخرجه مسلم وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عَنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً» أخرجه الترمذي وعند مسلم: «من تقرَّبَ منّي شِبرًا تقرّبتُ منه ذِراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا، ومن أتاني يمشِي أتيتُه هرولةً، ومن لقيَني بقُراب الأرضِ خطيئةً لا يشرِك بي شيئًا لقِيتُه بمثلِها مغفرة» وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول قال : «جاء شيخ كبير هرم ، قد سقط حاجباه على عينيه فقال : يا رسول اللّه ، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ، فهل له من توبة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أأسلمت ؟ فقال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن اللّه غافر لك غدارتك وفجراتك ، ومبدل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك ، فقال : يا رسول اللّه ، وغدراتي وفجراتي ؟ فقال : وغدراتك وفجراتك ، فولى الرجل يكبر ويهلل» .فيا له من فضلٍ عظيم وعطاء جسيم من ربٍّ كريم وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح ويتلطَّف ويسمَح وبتوبةِ عبدِه يفرَح ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ ، ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ «يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النّهارِ، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها» .

فأكثروا ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ والاستغفار، فقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكثِر من التّوبةِ والاستغفار، فعن الأغرّ بن يسارٍ المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليومِ مائة مرّةٍ» أخرجه مسلم

عباد الله: كم من مذنبٍ طال أرقُه، واشتدَّ قلقُه، وعظُم كمَده، واكتوى كبِدُه، يَلفُّه قَتارُ المعصية، وتعتصِره كآبَة الخطيئة، يتلمَّس نسيمَ رجاءٍ، ويبحَث عن إشراقةِ أمَل، ويتطلَّع إلى صُبحٍ قريب يشرِق بنورِ التوبةِ والاستقامةِ والهدايةِ والإنابة؛ ليذهب معها اليأسُ والقنوط، وتنجلِي بها سحائبُ التّعاسة والخوفِ والهلَع والتشرُّد والضياع. وإنَّ الشعورَ بوطأةِ الخطيئةِ والإحساسَ بألمِ الجريرةِ والتوجُّع للعَثرةِ والنّدمَ على سالف المعصية والتأسُّف على التفريط والاعترافَ بالذّنب هو سبيلُ التصحيح والمراجعةِ وطريق العودَة والأوبة.

وأمّا ركنُ التوبةِ الأعظم وشرطُها المقدَّم فهو الإقلاعُ عن المعصيةِ والنّزوع عن الخطيئةِ، ولا توبةَ إلا بفعلِ المأمورِ واجتناب المحظور والتخلُّص من المظالم وإبراءِ الذمّة من حقوق الآخرين. ومن شاء لنفسِه الخيرَ العظيم فَليُدلِف إلى بابِ التوبَة وطريقِ الإيمان، وليتخلَّص من كلِّ غَدرَة، وليُقلِع عن كلِّ فَجرة، ﴿فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ﴾ يستوجِبُ العفوَ الفتى إذا اعترَف ثم انتهَى عمّا أتاه واقترَف؛ لقوله سبحانه في المعترِف: ﴿إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ .

الخطبة الثانية :

الحمد لله

أيّها المسلمون، هذه التوبةُ قد شُرِعت أبوابُها وحلَّ زمانها ، ونزل أوانُها، فإنكم اليوم في شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران ،فاقطعوا حبائلَ التسويف، وهُبّوا مِن نومَةِ الرّدى، وامحوا سوابِقَ العِصيان بلواحِقِ الإحسان، وحاذِروا غوائلَ الشيطان، ولا تغترّوا بعيشٍ ناعم خضِلٍ لا يدوم، وبصِّروا أنفسَكم بفواجِعِ الدّنيا ودواهِمِ الدهر وهَوازِمه ، وتقلُّب لياليه وأيّامه، وتوبوا إلى الله عزّ وجلّ من فاحشاتِ المحارم وفادحات الجرائم وورطةِ الإصرار، توبوا على الفورِ، وأحدِثوا توبَةً لكلّ الذنوب التي وقعت، وتوبوا من المعاصِي ولو تكرَّرت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ عبدًا أصابَ ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال ربّه: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا فقال: ربّ، أذنبتُ آخر فاغفِره، فقال: أعلِم عبدي أنّ له ربًّا يغفِر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكثَ ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ، أذنبتُ آخرَ فاغفِره لي، فقال: أعلِمَ عبدي أنّ له ربًّا يغفر الذنبَ ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي» متفق عليه ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عبدٍ يذنِب ذنبًا ثمّ يتوضّأ ثم يصلّي ركعتين ثم يستغفِر اللهَ لذلك الذنبِ إلاَّ غفَر الله له» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي

عباد الله " لقد فتح الله باب التوبة لكلّ عبد، ووعد بقبولها فقال: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ ، بل قال في أصحاب الأخدود الذين قتلوا المؤمنين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ﴾ .

قال الحسن البصري رحمه الله: "انظروا إلى هذا الجرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة".

يا عبدَ الله، لا تكن ممّن قال: أستغفِر الله بلسانِه وقلبُه مصِرٌّ على المعصيةِ وهو دائمٌ على المخالفة، ليُقارِن الاستغفارَ باللسان موافقةُ الجَنان وإصلاحُ الجوارِحِ والأركان، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ .

أيّها المسلمون، توبوا من قريبٍ، وبادِروا ما دمتُم في زمنِ الإنظار، وسارِعوا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، فالعُمر منهدِم والدَّهر منصرِم، وكلُّ حيّ غايتُه الفَوت، وكلّ نفسٍ ذائقةُ المَوت، عن عبد الله بن عمَر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ عزَ وجلَ يقبَل توبة العبدِ ما لم يغرغِر» أخرجه الترمذي ، فيا عباد الله : إلى من يلجَأ المذنِبون؟! وعلى من يعوِّل المقصِّرون؟! وإلى أيِّ مهرَب يهربون؟! والمرجِع إلى الله يومَ المعادِ، ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ فأقبِلوا على الله بتوبةٍ نصوح وإنابة صادقة وقلوبٍ منكسرة وجِباه خاضِعة ودموعٍ منسكِبة.