الحلم وفوائده

بسم الله الرحمن الرحيم

الحلم وفوائده

يقول جلّ في علاه: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ .

فتعافَوا بينكم، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، ورغبةً في ثوابِ العفو وجزاء الصَّفح، واخرُجوا من ضيق المناقَشة إلى فُسحةِ المُسامحة، ومن حزورة المُعاسَرة إلى سهولةِ المُعاشَرة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُمُّوا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه، ، وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: قلتُ: يا رسول الله، الرجلُ أمُرُّ به فلا يقريني ولا يُضيِّفُني، فيمُرُّ بي، أفأجزيه؟ قال: «لا، أقْرِه» أخرجه الترمذي، ويقول جلّ وعلا: ﴿إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُواًّ قَدِيراً﴾ .

أيُّها المسلمون، كم رَأينا بين الأزواجِ والإخوانِ والأقاربِ والجيرانِ منَ المحن والإحَن والفتن والدَّخَن والدعاوى والخصومات والمُضادَّة والمحادَّة والغضاضة والنُّفْرة والشر والفتنة؛ حتى شاع الطلاق، وكثُرت القطيعة، وتصرَّمت أواصر القربى، فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حقَّ القرابة والرَّحِم والجوار، وكُفُّوا عن المنازعَة والقطيعَة، وعالجوا الأمورَ بما هو لشَمل القرابة أجمَع، ولطريق الفُرقة أقطَع.

وقابِلوا الإساءةَ بالإحسان تُنصَروا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال عليه الصلاة والسلام: «فإن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك» أخرجه مسلم. ومعنى «فكأنما تُسِفُّهم الملَّ» أي: فكأنما تُطعِمُهم الرماد الحار.

أيها الناس، نال الشتائم والسبابَ من كافة طبقات المجتمع، فقد هجاه شعراء، وسخر منه سادة، ونال منه سحرة. ولقد شاء الله سبحانه أن يأتي اليومُ الموعود الذي يفتح الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى إذا ما دخل بالبيت وطاف جلس في المسجد الحرام والناس من حوله، والعيون شاخصة إليه، والقوم مشرئبّون إلى معرفة صنيعه بأعدائه شرخِهم وشيوخهم، فقال كلمته المشهورة: «يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء» فيُسلم حينها العظماء ويتوبون كأمثال هند بنت عتبة وعكرمة بن أبي جهل، ويؤوب الشعراء ويعتذرون إليه كابن الزبعرى وكعب بن زهير، فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي.

الله أكبر، ما أجمل العفو عند المقدرة، والله أكبر، ما أجمل السعة عند الضيق والعزّة عند الذلة. ومن أحق بذلك إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ولقد صدق الله إذ يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .

أيها المسلمون، بهذا الموقف وبغيره من المواقف العظيمة دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محو الجاهلية وقطع ظلامها بأنواع المعرفة والإرشاد، ومنع الفساد فيها بحلمه وعفوه، ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ .

لقد كفكف الرسول صلى الله عليه وسلم من نزوات الجاهلية، وأقام أركانَ المجتمع على الفضل وحسن التخلق ونبذ الجهل والغضب، وكثيرٌ من النصائح التي أسداها للناس كافة كانت تتّجه إلى هذا الهدف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» رواه البخاري ومسلم

الحلم ـ أيها المسلمون ـ اسم يقع على زمِّ النفس من الخروج عند الورود عليها ضدَّ ما تحبّ إلى ما نُهي عنه، وهو في موطن الغضب سيادةٌ على النفس وضبط لها وكبحٌ لجماحها، كما أنه لباس العلم، فمن فقده فقد تعرّى وبدت للناس سوأته، وهل يجيء الباطل بخير؟! ألا إن الغضب قرين الشر، وإن الحلم راحة القلوب وسعادة الجماعات.

إن التفاوت بين الناس بعيد الشقة مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في أوضاعهم وخلالهم مثار امتحان بالغ الجدوى، ولذا قال جل شأنه: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ .

ففي الناس الحليم الأريب المتأني الذي إذا استنفرته الشدائد أبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره وسجاحة خلقه، فلا يَحمي من قليل يسمعه فيوقعه في كثير يكرهه، ولا يفضح نفسه ليتشفَّى من غيظه، فإن جُهل عليه لم ينفعه إلا حلمه، ويا للعظمة والعلو إن فعل كفِعل قيس بن عاصم، وقد أتوه برجل قد قتل ابنَه، فجاؤوا به مكتوفاً فقال: ذعرتُم أخي، أطلقوه واحملوا إلى أمّ ولدي ديَّته؛ فإنها ليست من قومنا

ثم إن في الناس الطائشَ الأهوج، كما أن فيهم الغرَّ المأفون الذي تستخفُّه التوافه فيستحمق على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يزِمّ نفسَه ولا يتريّث، بل يهذي بكلام ويوكس ويشطط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار وتلفيق، فيقع فيها نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «ولا تكلَّم بكلام تعتذر منه غداً» رواه أحمد وابن ماجه؛ إذ لا ينفعه الاعتذار حينئذ، لأنه إذا استطيَر وراء لهب الغيظ برْطَم وأفسد الأمورَ في غيبة وعيه وغلبة عاطفته، فلم يدع لإصلاحها مكاناً، فإن نُصح اشتدّ هوجاً، وإن ذُكِّر اكتظَّ غيظاً، وهذه هي علة الحمق الكامنة.

ولقد رأينا الغضبَ يشتطّ بأصحابه إلى حدّ الجنون عندما تُقتحم عليه نفوسهم، ويرون أنهم حُقِّروا تحقيراً لا يعالجه إلا سفك الدم، أفلو كان المسلم يعيش من وراء أسوار عالية من فضائله أتُراه يُحسّ بوخز الألم على هذا النحو الشديد؟! لا وكلا، بل إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، ولا غرو في ذلك إذ لا تعود الجمرة إلا على موقدها الأول، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «المستبّان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يَعتدي المظلوم» رواه مسلم

فلا ينبغي للمؤمن الكبير أن يضيق بهرف قطعانٍ متناثرة، بل إن المصلح العظيم يُفيض من أناته على ذوي النزق حتى يُلجئهم إلى الخير إلجاءً، فيطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء والذكر الحسن.

إن من الناس من لا يسكت عن الغضب، فهو شخص غضوب، في ثورة دائمة وتغيّظ يطبع على وجهه العبوس، إذا مسّه أحد بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يرغي ويُزبد ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقاء، فقد يسُبّ الباب إذا استعصى عليه فتحُه، وقد يلعن دابةً جمحت به، أو يعرّ امرأته ويكسر ضلعها ويضيّع أمرَها فيفرّق شملَه في نقصان ملحٍ أو يبوسة خبز، ثم يطلقها عددَ نجوم السماء، وكان يكفيه من ذلك زُحل، فيتهارشان تهارشَ الكلبين، ويتناقران تناقرَ الديكين، فلا يفترقان إلا عن الخدش والعقر والهجر، فيجني كلٌّ منهما على نفسه بالحرمان والعقوبة، والنتيجة الحاصلة هي يُتم الأولاد إبان حياة الأبوين، والإسلام بريء كلَّ البراءة من هذه الخلال الكدِرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء» رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"

ثم لا تسألوا بعد ذلك ـ أيها المسلمون ـ عن ندم الزوجين ولات ساعة مندم، إذ يختلقون المعاذير، ويراجعون القضاة والمفتين، كلُّ ذلك لمحو غلطة ارتكبها الغاضب دون تفكير أو رويَّة أو تدرّج في التأديب، مما تسبَّب في هدم لبنةٍ كان بإمكانه معالجتها لو ملك عقلَه وأشهر حلمه وكفّ غضبه، وما ذنب الولد إذا خرج من بيته هلِعاً مكفهرٌّ وجهُه ضائق صدرُه، ينطلق يمنةً ويسرة يبحث عن سببٍ يزيل به همَّه ويجلو غمّه، ولربّما استبشر به وبأمثاله وحوش الظلام وذئاب المجتمع، فيسير وراء تخبّطهم ويضيع بضياعهم، كل ذلك من خلال تعاطي الكيوف القتالة من المسكرات والمخدرات، وما ذاك إلا نتيجة غضبة من أبيه أو أمه، أعقبها سبّ وشتم ولطم، وربما طردٌ ولعن، فيتبدّد بذلك شمل الأسرة وتقَوَّض المجتمعات، فيكسَب في كل يوم عدوّ، ويفقَد صديق، ويهدَم بيت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

عباد الله، اعلموا أن الحليم إما أن يكون عاجزاً جباناً، ليس له شيء ولا عليه شيء، فهذا إن لم يغنم فإنه لا يأثم، وإن ادَّعى الحلمَ مع عدم الاقتدار على إنفاذ العقوبة فهذه حجة لا يلجأ إليها إلا اللئام.

وإما أن يكون مخادعاً مكاراً، ظِهارتهُ سمتُ المؤمنين، وبطانته حِقدُ المجرمين، يتحلّم ظاهراً ويعُفّ علناً، ولكنه يغضب باطناً وينتقم مسرِفاً، فهذا حقودٌ لدود، ينقلب على المجتمع من سوء صنيعه سوساً كطبع السوس، لا يقع على شيء إلا نخره أو عابه، أو دوداً كطبع الدود، لا يقع على شيء إلا أفسده وقذَّره، ومثل هذا لا يلبث أن يفضحه الله على رؤوس الخلائق.

وإما أن يكون حليماً مفطوراً على الخير مجبولاً عليه، مع إمكان تنفيذ العقوبة، وهذا كأشجّ عبد القيس الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: أشيء تخلقتُ به أم جُبلت عليه يا رسول الله؟ فقال: لا، بل جُبلت عليه»، فقال: الحمد لله الذي جُبلت على خصلتين يحبهما الله ورسوله. رواه مسلم وغيره

وإما أن يكون ثائرَ النفس، أزعجه من ظلمه، فيصبر محتسباً، ويصفح قادراً، ويأمره إيمانه بالعرف والعفو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدنيا والآخرة، والمشكور عند الله، ومن ثمّ عند خلقه، وهو الموصوف بالشدة والقوة كما في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» رواه البخاري ومسلم وهو المقصود أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من الحور العين يزوِّجه منها ما شاء» رواه أحمد

أعاذنا الله وإياكم من الغضب، ومن سوئه وآثاره، ورزقنا الحلم والتحلُّم، إنه سميع قريب.

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ .

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه يجب علينا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما يجب علينا أن نقصُر أنفسنا عن الغضب، وأن لا نتسرَّع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة ولات ساعة مندم، والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غيظه وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلُّم وتصبّر واستعاذة بالله من النفس والهوى والشيطان، واسمعوا ـ رعاكم الله ـ وصيةً من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه فيما رواه البخاري في صحيحه «أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: لا تغضب، فردّد مراراً قال: لا تغضب» والمراد من الحديث أن لا يعمل المرء بمقتضى الغضب إذا حصل له، بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان هو الآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ فإذا ما جاهد المرء نفسَه اندفع عنه شرّ الغضب وذهب عنه عاجلاً، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى مثل هذا وقعت الإشارة في القرآن الكريم بقول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ وقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ .