آيات وتخويف

بسم الله الرحمن الرحيم

آيات وتخويف

أيها الناس: اتقوا الله واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ سخر لكم الشمس والقمر دائبين ،لتعلموا عدد السنين والحساب ولتتنوع الثمار. سخرهما يسيران بنظام بديع، وسير سريع ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ لا يختلفان علوا ولا نزولا، ولا ينحرفان يمينا ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ .

فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ (39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ .

عباد الله : لقد غفل كثير من الناس عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين آناء الليل والنهار وأعرضوا عن التفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار. والشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله ينجليان بأمره وينكسفان بأمره فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفاتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كله أو بعضه إنذارا للعباد وتذكيرا لهم لعلهم يحدثون توبة.

عباد الله : لا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا ونسوا أهوال الآخرة وأترفوا أبدانهم وأتلفوا أديانهم أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ .

أيها الناس: للكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون ويتهاون بها ضعيفوا الإيمان فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق.

لقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم ، بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق وذلك في يوم شديد الحر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزِعًا يجرُّ رداءَه يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ ، ثم خطب خطبة عظيمة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال «أما بعد فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره». وفي رواية: «فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا حتى يفرج الله عنكم»، وفي رواية: «حتى ينجلي»، وقال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وأيم الله ، لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لا قوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت النار يحطم بعضها بعضا فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه، يعني أمعاءه، ورأيت فيها امرأة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقل: من صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته». ثم ذكر الدجال وقال: «لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا حتى تزول جبال عن مراتبها».

الخطبة الثانية :

الحمد لله :

أيها المسلمون: إن فزع النبي صلى الله عليه وسلم للكسوف وصلاته هذه الصلاة وعرض الجنة والنار عليه ، ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة ، ورؤيته الأمة تفتن في قبورها، وخطبته هذه الخطبة البليغة، وأمره أمته إذا رأوا كسوف الشمس أو القمر أن يفزعوا إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصدقة بل أمر بالعتق أيضا. إن كل هذه لتدل على عظم الكسوف وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا حتى قال بعض العلماء أنها واجبة وأن من لم يصلها فهو آثم.

فصلوا أيها المسلمون رجالا ونساء عند كسوف الشمس أو القمر كما صلى نبيكم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة، لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة.

عباد الله : أسبابُ العقوبات قد انعقَدت، وعلامات العذاب قد ظهَرت، فعلى المسلمين جميعًا أن يتوبوا إلى الله عزّ وجلّ، وأن يخلِصوا له التوبةَ النصوح، وأن يستغفروه ويتوبوا إليه، فإنّ الله عزّ وجلّ يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النّهار، ورحمتُه سبحانه وسِعت كلَّ شيء، وهو يدعوكم إلى جنته ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ .

رحمةُ الله تعالى واسعة، فهو يناديكم، وهو أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ ناقتَه في الصحراء عليها متاعُه وزادُه، ثم فرح بها، فالله عزّ وجلّ أفرح من هذا العبد الذي لقي ناقتَه بعد ضياعها.

فعلينا أن نتوبَ إلى الله عزّ وجلّ، وأن نستغفرَه ونعودَ إليه، وأن نفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء رجالاً ونساء، والنساء يخرجن بالشروط المعتبرة في حقهن. ففي البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيامٌ يصلون، وإذا هي قائمة تصلي. وإنما تشرع الصلاة للكسوف إذا رُئِي ذلك الضوء منكسفًا، وليس بتوقيت الصحف، أو ما يذكره أهل الفلك؛ لأنهم قد يصيبون ويخطئون.