الموتة الصغرى

بسم الله الرحمن الرحيم

الموتة الصغرى

عباد الله: اتقوا الله ـ تعالى ـ واشكروه على سابغ نعمته، واستعينوا به على طاعته، ولا تجعلوها ذريعة لمعصيته، بل اتخذوها سلماً للفوز بمغفرته ورضوانه وجنته، وتذكروا أنكم منقلبون إليه، فموقوفون بين يديه، ومسئولون عما أنتم فيه من النعمة والخير العميم، وقد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار ﴿هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ .

عباد الله: من آيات الله الباهرة، ونعمه الظاهرة، هذا الليل الذي جعله الله لكم لتسكنوا فيه، فتنقطع معه حركاتكم، وتهدؤوا فيه بنومكم، ولهذا ذكره الله ـ تعالى ـ من جملة آلائه امتناناً وتذكيراً، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً﴾. أي يغشاكم بسواده، فتسبت حركاتكم أي تنقطع فيه؛ ليحصل لكم السكون والراحة فيه: ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً﴾. أي تنتشرون فيه لتجارتكم وأعمالكم وسائر تصرفاتكم التي تتحقق بها معايشكم، فجعل هذا للارتياح وهذا لطلب الأرباح؛ فتقوم بذلك المصالح، ويستعان بهما على العمل الصالح، ولهذا قال ـ سبحانه ـ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾. أي ألم يشاهدوا هذه الآيات العظيمة، والنعم الجسيمة، في تسخير الليل والنهار يتعاقبان، هذا بظلمته وهدوئه، ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل، وهذا بضيائه لينتشروا فيه لمعايشهم وتصرفاتهم، فليشكروا الله، وليحسنوا العمل، إن في ذلك لآيات واضحات دالات على كمال وحدانيته، وسبوغ نعمته، ووجوب الإخلاص له في عبادته، ينتفع بها المؤمنون ويجحدها المبطلون.

عباد الله: ومما قرر الله ـ تبارك وتعالى ـ به إلهيته، واحتج به على المشركين به في عبادته، ونبه به على أنه هو الإله الحق المستحق للحب والذل والتعظيم والإجلال والإكرام ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. فأخبر بأنه وحده المتفرد بتدبير عباده في يقظتهم ومنامهم، وأنه يتوفاهم بالليل وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم ويبعثهم في اليقظة من نومهم؛ ليتصرفوا في مصالحهم ومعاشهم ومعادهم، وليستكملوا الأرزاق والآجال، وهو سبحانه يعلم ما جرحوا وكسبوا من الأعمال، ومنهم من يتوفاه الله على نومه ثم لا يبعثه الله إلا يوم القيامة، لأنه سبحانه قد قضى بنفاد أجله وانقطاع عمله فاخترم دون أمله، ولذا كان الرسول كما في (خ م) يقول إذا أراد أن ينام: «باسمك اللهم أموت وأحيا» وإذا استيقظ من منامه قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، وفيهما أيضا كان يقول: «باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»، وعند (م) كان يقول: «اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية».

عباد الله: في هذه الأذكار النبوية تذكير للنفس بأن النوم أخو الموت، وأنه مذكر به، وقد يكون طرفا له؛ فإن استحضر العاقل الأجل، خاف من الله ـ عز وجل ـ، وحرص على الختام بصالح العمل؛ فقد ثبت عند (م) عن النبي قوله: «يبعث كل عبد على ما مات عليه»، وثبت في (خ م) عنه قال: «أن الناس إذا ماتوا يبعثون على نياتهم»، وكم من الناس اليوم يفرطون في هذا الجانب؛ فيختمون يقظتهم بعمل المنكرات، ينامون مصرين على السيئات، عازمين متواطئين على ترك صلاة الفجر مع الجماعات، فماذا لو ماتوا حال نومهم، وبعثوا على نياتهم فماذا يقولون لربهم ـ تبارك وتعالى ـ إذا وقفوا بين يديه وسأل كل واحد منهم عن إحسانه إليه وحقه عليه؟ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ .

ألا فاتقوا الله عباد الله: وأحسنوا النيات، وبادروا فرص العمل بعمل الصالحات، واتقاء السيئات، وسرعة التوبة إلى الله ـ تعالى ـ من الزلات واختموا يقظتكم بخير، واستعينوا بالنوم على عمل البر، وأظهروا لله الشكر، ولا تكونوا ممن قال ـ تعالى ـ فيهم في معرض الذم والتهديد والإنذار والوعيد بسبب ما كانوا يقترفون: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ .

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، والناصح المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون. أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله واستقيموا على دينه وهداه، واشكروه على سابغ نعماه، ولا تكونوا ممن غفل فأعرض واتبع هواه، فإن الله تعالى قد قال في وحيه الذي أوحى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ .

واعلموا أن لنبيكم صلى الله عليه وسلم هدياً كريماً، وسَنَناً معلوماً، كان يأخذ به عند نومه، ويوصي به أهله وصحابته، وهو وصيته لكل أحد من أمته، وبالأخذ به ينتفع من النوم ويتقرب إلى الحي القيوم، وتتقى الشرور والمكارم والهموم؛ فمن ذلك أنه أرشد إلى إزالة زفر الطعام من الأيدي قبل النوم فقال كما في (ت جه): «إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمر فلم يغسل يده فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه»، وعند (د) قال: «إذا نمتم فأطفئوا سرجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم». وعند (حم، د، ت ) لما رأى رجلا قد نام على بطنه قال: «إن هذه ضجعة لا يحبها الله تعالى»، وروى أنها حال أهل النار وهم يعذبون، وكان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن، كما خرّجه (حم، س )، وعند (م) كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وعند (د) قال: «من اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه كان عليه ترة»، أي حسرة وندامة يوم القيامة، وفي (خ م) كان يقول: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد».

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.