الكوارث والعقوبات

بسم الله الرحمن الرحيم

الكوارث والعقوبات

أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، الآمٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع ، الدنيا دار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرةٍ لمن اعتبر بها ، تُضحِك وتُبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاء، وسراء وضراء .

أيها المسلمون، إن ما يحدث اليوم من كوارث ومصائب وبلايا، وابتلاءات ورزايا ، إنما هي آياتٌ وعِظاتٌ، يريها الله عبادَه في الدنيا إنذارًا وتخويفًا وتحذيرًا وترهيبًا وإيقاظًا وتذكيرًا ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾. براكين أوروبا حمم تقذف من خوف الأرض ، ودخان كثيف يغطي الأجواء، تعطلت المصالح ، وأغلقت المطارات ، وعم الرعب والهلع ، إنه تذكيرٌ للعباد بعظمة الله وقدرته، وأن الله تعالى هو القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، إنه الله جل جلاله، الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، إنه الله جل جلاله، سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين.

إليه وإلاّ لا تُشدّ الركائبُ *** ومنه وإلاّ فالمؤمِّل خـائبُ

وفيـه وإلاّ فالغرام مضيّعٌ *** وعنه وإلاّ فالمُحدِّث كاذبُ

إنه الله جل جلاله، قال سبحانه عن نفسه ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ ، يغفر ذنبًا، ويفرّج كَربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، يُحيي ميتًا، ويُميت حيًا، ويُجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيرانًا، ويغيث لهفانًا، ويفك عانيًا، ويُشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً. يظهر آية، ويبين معجزة.

إنه الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، السماءَ بناها، والجبالَ أرساها، والأرضَ دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويُغدق العطاء، ويرسل النعم.

إنه الله جل جلاله، أغرق فرعون وقومه. إنه الله جل جلاله، أرغم أُنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزَّق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطيرٍ أبابيل.

إن الذنوب والمعاصي ـ يا عباد الله ـ سبب لكل بلاءٍ وشر ومحنة؛ فبالمعصية تبدّل إبليس بالإيمان كفرًا، وبالقُرب بُعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا تلظى، وبالمعصية عمّ قوم نوحٍ الغرق، وأُهلكت عادٌ بالريح العقيم، وأُخذت ثمود بالصيحة، وقُلِبت على اللوطية ديارهم ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ .

أيها المسلمون، إن للمعاصي شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والجو، تضلّ بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ .

عباد الله : إذا أظلم الليل ودَجا، وادلهمّ وسجى، وظهرت آية من آيات الله كانت الموعظة والذكرى، قال جل وعلا: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ ، عند (خ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك» .

عباد الله : من الآيات المخيفة والنذُر المرعِبَة والعِظات الموقِظَة آيةُ الخَسف والرَّجفَة والزَّلزَلة والبراكين والأعاصير ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبَض العِلم، وتكثُر الزلازل، ويتقارَب الزَّمان، وتظهَر الفتن، ويكثر الهرج ـ وهو القتل ـ حتى يكثُر المال فيفيض» أخرجه البخاري، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في هذه الأمة خَسفٌ ومسخٌ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: إذا ظهرتِ القينات والمعازفُ وشُرِبت الخمورُ» أخرجه الترمذي، وله عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يكون في آخرِ هذه الأمّة خَسفٌ ومَسخٌ وقَذف، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم؛ إذا ظهَر الخبث» .

الخطبة الثانية :

الحمد لله :

خلَق الله الخَلقَ وهو المعبودُ أبدًا، المحمود على طول المدَى، ومِن آيات قدرتِه العظيمة أن جعَل الأرضَ قارّةً ساكنة ثابتة، لا تتزلزَل ولا تضطرِب ولا تميد، ولا تتحرَّك بأهلِها، ولا ترجُف بمن عليها، وجَعَلها مِهادًا وبِساطًا، وأَرساها بالجبالِ وقرَّرها وثقَّلها حتى سَكنت وتذلَّلَت، أنبَع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرَى أنهارَها، وأنبت زرعَها وأشجارها وثمارَها، وبثَّ الخلق فيها إذ دَحاها، فهُم قُطَّانها حتّى التنادِي، يعيشون في أرجائها وأطرافها، حتى إذا انتهى الأمرُ وانقضى الأجل أذِن الله لها فتزلزلت وتحرَّكت، وألقَت ما فيها من الأموات، وحدَّثت بما عمِل العاملون على ظهرها من الحسَنات والسيِّئات ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾ .

أيها المسلمون: إنَّ ما يحدَث في هذه الأيام مِن زلازلَ وهزّاتٍ، وبراكين وفيضانات ،حدثٌ جللٌ وأمرٌ عظيم، يبعَث على الوجَل من الله تعالى وعقوبته؛ وحال كثير من الناس ينطبق عليه قول الله ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً﴾ ، وقوله ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ، وقوله ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ ، فضجّوا بالاستغفار، وتخلَّصوا من الذنوب والأوزار، وأشفِقوا من غضَب الجبّار، وأظهِروا الخشيةَ والتوبةَ والإنابة والتضرُّعَ والفاقةَ والمَسكَنة، وأكثروا الدعاءَ، وعظِّموا الرغبةَ والرجاء، واصدُقوا في اللَّجَأ، ولا تفتُرُوا عن ذكر الله تعالى والتذلّلِ له والتقرّبِ إليه والفِرار إليه. قال الله ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ، قال قتادة: "بلغنا أنه ليس أحدٌ يصيبُه خَدشُ عودٍ ولا نَكبة قَدم ولا خَلجات عِرق إلا بذنب، ويعفو الله عنه أكثر".

يا من إليه جميـعُ الخلق يبتهِلُ *** وكـلُّ حيٍّ على رُحْماه يتَّكـل

أنتَ الغِياث لمن سُدَّت مذاهِبُه *** أنت الدّليل لِمن ضلَّت به السُّبُل

إنّـا قصدنـاك والآمالُ واقِعةٌ *** عَليك والكلُّ ملهوفٌ ومبتَهِـلُ

لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنا منَ ظالمين، ربَّنا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.