القلب الحي

بسم الله الرحمن الرحيم

القلب الحي

الحمد لله المستحق للحمد والثناء، له الخلق والأمر، يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأعوذ بالله من حال أهل الشقاء. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل الرسل وخاتم الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:

عباد الله: من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون. فهل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام.

أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود. وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ .

هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. من غير إنذار أو إشعار. ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ها هو ابن آدم يصبح سليماُ معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب.

ويلٌ للأغرار المغترين، يأمنون الدنيا وهي غرارة، ويثقون بها وهي مكارة، ويركنون إليها وهي غدارة، فارقهم من يحبون، ورأوا ما يكرهون، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم جاءهم ما يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.

إنها الدنيا: تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.

عباد الله: لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان. وإذا رأيت في عيشك تكديراً، وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد ارتكبت؛ فليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.

يقول الفضيل بن عياض: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي.

عباد الله: هذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله، وما بفساده فساد الحال كله. وقفةٌ مع ما هو أولى بالمحاسبة، وأحرى بالوقفات الصادقة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في (خ م): «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند (حم): «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه».

عباد الله: من عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه. يقول ابن مسعود: هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر. فمن لم يظفر بذلك فحياته هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ .

بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه وقدم ذلك وقرره بأقسام متوالية؛ اقروؤا إن شئتم وتأملوا: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ .

الخطبة الثانية :

الحمد لله :

عباد الله: القلوب أربعة: قلب تقي نقي فيه سراج منير فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف مظلم؛ فذلك قلب الكافر، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ﴾ . وقلب مرتكس منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا﴾ . وقلبٌ تمده مادتان؛ مادة إيمان، ومادة نفاق فهو لِما غلب عليه منهما. وقد قال الله في أقوام: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ .

وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل. وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم. يقول ابن القيم: وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية. ورجل الدنيا وواحدها هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم.

إذا كان الأمر كذلك عباد الله: فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدو ويروح، ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتدبير الحكيم؛ ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.

عباد الله: أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون، خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون في البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى. اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب، وسخاء النفس مع رجاحة العقل. هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا. رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمتهم عند الثريا بل أعلى. إن عُرفوا تنكَّروا، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء. عند (م) من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشرِبها نكتت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مربادٌّ كالكوز مُجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض» .

ويقول بعض الصالحين: يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه. شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا، وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إلى ربكم وأصلحوا فساد قلوبكم.