فضائل العفو

بسم الله الرحمن الرحيم

فضائل العفو

أيُّها المسلمون: يتفاوَت الناس في مكارِم الأخلاقِ، ومقاماتِ الإحسان، وجميلِ السجايا والخِصال، وإنَّ العفوَ عن المُسِيء في أمرِ المعاش، وعن المُقصِّر في أدب الصحبة، وحقوق المخالطة، والإغضاءَ عن زلَّته، والتجافيَ عن هفوته، والتغافل عن عثرته، واحتمالَ سقطتِه، من أجلِّ الصفات، وأنبل الخِصال، يقول جلَّ في علاه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ ، وقال جلَّ في عُلاه: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ ، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ، فشرع العدل وهو القِصاص، ونَدَب إلى الفضل وهو العفو، قال إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى: "كانوا يكرهون أن يُستذلُّوا، فإذا قدروا عفَوا" أخرجه البخاري.

عباد الله : العفو صفة يحبها الله قالت عائشة: يا رسول الله، أرأيتَ إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ فقال: «تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني».

والعفو أقربُ للتقوى، والصَّفح أكرمُ في العُقبى، والتجاوُز أحسنَ في الذِّكرى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ما نقصَت صَدقةٌ من مال، وما زادَ الله عبدًا بِعفوٍ إلا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفعه» أخرجه مسلم، وعن عقبةَ بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهلِ الدنيا والآخرة؟ تصِل من قطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَك، وتَعفو عَمَّن ظلمك» أخرجه أحمد.

عباد الله: الصبرُ عند الغضَب، والحِلم عند الجهل، والعَفو عند الإساءة، مرتبةٌ عالية، وخصلةٌ شريفة، لا يقدر عليها إلا الصّابرون، المُهتدون المُوفَّقون، يقول جلَّ في علاه: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاصِ رضي الله عنهما أنّه قال في صِفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ليس بفظٍّ ولا غَليظ، ولا سخَّابٍ في الأسواق، ولا يَدفع السيئةَ بالسيِّئة، ولكن يعفو ويصفح. أخرجه البخاري. وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «ما ضَربَ رسولُ الله شيئًا قطُّ بيَدِه، ولا امرأةً، ولا خادِمًا، إلاَّ أن يُجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِم من صاحبِه، إلا أن ينتهكَ شيئًا من محارم الله تعالى، فينتقم لله عز وجل». أخرجه مسلم.

أيّها المسلمون، لا عافيةَ ولا راحة ولا سعادة، إلا بسلامةِ القلب من وسَاوس الضغينة، وغواشي الغِلّ، ونيران العداوة، وحسائِك الحقد، ومن أمسَك في قلبِه العداوة، وتربَّص الفرصَةَ للنّقمَة، وأضمَر الشّرَّ لمن أساء إليه، تكدَّر عيشُه، واضطربت نفسُه، ووهنَ جسدُه، وأُكِل عِرضُه. والعافية إنما هي في التغاضِي والتغافُل، وقد قيل: "في إغضائِك راحةُ أَعضائِك"، وقيل: "الأديبُ العاقل هو الفطِن المُتغافِل"، وقيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: العافية عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها في التغافُل، فقال: "العافية عشرةُ أجزاء كلُّها في التغافل"، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

لما عفوتُ ولم أحقِد على أحدٍ *** أرحتُ نفسي من همِّ العداواتِ

يقول جلّ في علاه: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ ، فتعافَوا بينكم، وتجاوَزوا عمَّن أساءَ إليكم؛ ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، ورغبةً في ثوابِ العفو، وجزاء الصَّفح، واخرُجوا من ضيق المناقَشة، إلى فُسحةِ المُسامحة، واطوُوا بساطَ التقاطُع والوحشة، وصِلوا حبلَ الأُخُوَّة، ورُمُّوا أسبابَ المودّة، واقبَلوا المعذِرة؛ فإن قبولَ المعذرة من محاسنِ الشِّيم، وإذا قدرتم على المُسيء، فاجعَلوا العفوَ عنه شُكرًا لله للقدرة عليه.

الخطبة الثانية :

الحمد لله

فلقد نال النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق أعلاه وأرفعه، وأظهر من آيات الصفح والعفو جميلها وجليلها، فقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أخطاء من أساء إليه، سواء كان المخطئ قريبًا أو بعيدًا، عدوًّا أو صديقًا، ما لم يكن مُنتهِكًا لحرمات الله، كما قال عنه أنس بن مالك: وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تُنتهَك حرمة لله فينتقم. رواه مسلم.

أيّها الناس: سلامة صدرِ المرء من الغشَش، وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس، والتشَفِّي لحظوظِها، لهي سِمَة المؤمن الصالح، الهيّن اللَّيِّن، الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ فما حاجةُ الدنيا إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة؛ بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه البسيطة، وهو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات، والغِلظة والفَظاظَة، و يُفرِزُ بين الحين والآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه وضيق عَطَنه؟!

أيُّها المسلمون، كم رَأينا بين الأزواجِ والإخوانِ، والأقاربِ والجيرانِ، منَ المحن والإحَن، والفتن والدَّخَن، والدعاوى والخصومات، والمُضادَّة والمحادَّة، والغضاضة والنُّفْرة، والشر والفتنة؛ حتى شاع الطلاق، وكثُرت القطيعة، وتصرَّمت أواصر القربى، فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراعوا حقَّ القرابة والرَّحِم والجوار، وكُفُّوا عن المنازعَة والقطيعَة، وعالجوا الأمورَ بما هو لشَمل القرابة أجمَع، ولطريق الفُرقة أقطَع.

قابِلوا الإساءةَ بالإحسان تُنصَروا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: «يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون عليَّ، فقال صلى الله عليه وسلم : فإن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك» أخرجه مسلم. ومعنى «فكأنما تُسِفُّهم الملَّ» أي: فكأنما تُطعِمُهم الرماد الحار.

قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ، وقال جلَّ في علاه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .