الحياء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحيـاء

الحمد لله

أيها المسلمون : إن للآداب والأخلاق ،  صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها ، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها . الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة ، ودليل الالتزام بالمبادئ والمثل .  والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة ، راجع إلى الخلق العالي ، ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل ، والأدب الرفيع ، إلا بالترويض على نبيل الصفات ، وكريم العوائد ، بالتعليم والتهذيب ، والاقتداء الحسن .

إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها ، صغيرها وكبيرها ، دقيقها وجليلها ، غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحاً ،  وأن لهذه الأخلاق عنواناً ، وعليها دليلاً ، ذلكم هو خلق الحياء ، فالحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح ، والتقصير في حق . ففي الحديث « الحياء  لا يأتي إلا بخير » وفي رواية « الحياء خير كله ». الحياء  خلق الإسلام  ، فعن زيد بن طلحة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : « إن لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام ، الحياء » الحياء : ذلك الخلق العظيم ، خلق الأنبياء ، وصفة المتقين ، « إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستح فاصنع ماشئت » وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، يصف لنا حال النبي صلي الله عليه وسلم فيقول : لرسول الله صلي الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه ، عرفناه في وجهه . مق . وعد النبي صلي الله عليه وسلم الحياء ، شعبة من شعب الإيمان ، وخصلة من خصاله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « الإيمان بضع وستون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان » وفي الصحيحين أن النبي صلي الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار ، وهو يعظ أخاه في الحياء ، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم « دعه فإن الحياء من الإيمان » وذكر الحياء عند النبي صلي الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، الحياء من الدين ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : « بل هو الدين كله »  بل إن الحياء صفة اتصف الله بها ، فقال صلي الله عليه وسلم « إن الله حيي كريم ، يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً » .

أيها الناس : إن الله أولى من يستحيا منه ، فهو مولي النعم ، ودافع النقم ، ولا يتولد هذا الخلق إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه ،  ويتفكر فيها ، ويدرك تمامها وشمولها ، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير ، فيستحيي من ربه  حق الحياء. فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال  ذات يوم لأصحابه: «   استحيوا من الله حق الحياء  »، قالوا : إنا نستحيي من الله يا رسول الله ، فقال : « ليس كذلك ، ولكن من استحيا من الله حق الحياء ، فليحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء » أيها المسلمون : إن من الحياء ، أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ ، ومن الحياء ، أن يتوقى الإنسان كل خلق ذميم ، ويتحاشى كل فعل قبيح ، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « ما كان الفحش في شيء إلا شانه ، وما كان الحياء في شيء إلا زانه »  وإن من الحياء ، محافظة المسلمة ، على كرامتها وحشمتها ، ومراقبة ربها ، والاعتزاز بحجابها وعفتها ،  وحفظ حق بعلها ، والبعد عن مسالك الريبة ، ومواطن الرذيلة ، لئلا يغض ماء الحياء ، فيذهب العفاف والبهاء . ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ وإن من الحياء ، أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ، فيؤتى كل ذي فضل فضله ، فالابن يوقر أباه ، والتلميذ يحترم معلمه ، والصغير يتأدب مع الكبير .  رأى أبو هريرة رضي الله عنه ، غلاماً يمشي مع رجل ، فقال للغلام : من هذا منك ؟ قال : أبي ، قال : اسمع ، لا تمش أمامه ، ولا تجلس قبله ، ولا تناده باسمه .

أيها المسلمون : ويقابل الحياء ، البذاءة والجفاء ، أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة ، والبذاءة من الجفاء ، والجفاء في النار » ومنزوع الحياء لا تراه إلا على قبح ، ولا تسمع منه إلا لغواً وتأثيماً ، عين غمازة ، ونفس همازة ، ولسان بذيء ، يتركه الناس اتقاء فحشه ، مجالسته شر ، وصحبته ضر ، وفعله عدوان ، ويزيد الأمر ، ويعظم الخطب ، حين يكون اللهو في الطرب والغناء ، حيث الخروج عن الفضيلة ، وخلع جلباب الحياء ، ومن لا حياء له ، لا إيمان له كما في الحديث الصحيح « الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر » . فاتقوا الله أيها المسلمون ، والتزموا الحياء والعفاف ، فهو الباعث على فعل الطاعات ، وترك القبائح والمنكرات ، وهو المانع من التقصير في الشكر ، وعرفان الجميل ، والتفريط في حق كل ذي حق .

الخطبة الثانية :

فاتقوا الله عباد الله ، وفروا من الله إلى الله ، واستتروا بستر الله ، ولا تبارزوا الجبار بالمعاصي ، ولا تجاهروا بها بين الناس ، فهل من الحياء أن ترى العاقل ، وقد نصب الأطباق الفضائية على سطح داره  ؟  وهل من الحياء  أن ترى الرجل وقد أشعل السيجارة ووضعها أمام الناس في فيه ؟  وهل من الحياء أن ترى اللبيب  يجر إزاره ؟ وهل من الحياء أن ترى الشاب في سيارته يتراقص على أنغام الموسيقى والطرب ؟ ولا يهدأ له بال ، ولا يقر له قرار حتى يؤذي بمنكره من حوله ؟ وهل من الحياء أن تخلع المرأة سترها ، وتلقي جلبابها ، وتخرج بعض وجهها ، وهل من الحياء أن تكثر الخروج إلى الأسواق ؟ وهل من الحياء أن ترفع صوتها بين الرجال ؟ في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : « كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عليه » أين الحياء من شاب أسهر ليل والده ، وأجرى الدمع من مقلة والدته ؟ أين الحياء من أبٍ يعصي الله أمام أولاده ؟ أين الحياء من إنسان أطلق نظره للحرام ، ولسانه للغيبة والنميمة ، ومد يده للرذيلة ، ومشى برجله لمواطن الريبة ؟جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم ، فقال : إن نفسي تراودني المعصية ، ولا أستطيع كبح جماحها ، فماذا أفعل ؟ قال : إذا وفيت  بخمس فاعص الله ماشئت ، قال : وما هي ؟ قال : إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه ، ولا تنم في أرضه ، ولا تعصه أمام عينيه ، قال : وكيف يكون هذا ؟ وكل ما في الأرض لله ، والأرض ملكه والسماء سماؤه ، وفي أي ركن أكون منها ، فالله تعالى يعلم السر وأخفى ، قال : أما تستحي أن تأكل من رزقه ، وتنام على أرضه ، وتعصه أمام عينيه ؟ عباد الله : إن المسلم عفيف حيي ، يفعل الجميل ، و يجتنب القبيح ، ولا ينبغي أن يكون الحياء حائلاً عن طلب العلم ، أو مانعاً من قول الحق ، أو صاداً عن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل قد قرر أهل العلم ، أن من امتنع عن مواجهة الحق ،  وأخل بالواجبات ، زاعماً أن هذا من الحياء ، فقد ضل السبيل . فما هذا إلا عجز وخور ، وضعف واستكانة ، بل خنوع وتقصير ومهانة ، فحقيقة الحياء ، ما بعث على ترك القبيح ، ومنع من التقصير في حق كل ذي حق . فلم يمنع الحياء نساء الصحابة من التفقه في الدين فضلاً عن الرجال ، فهذه أم سليم تقول : لرسول الله صلي الله عليه وسلم إن الله لا يستحيي من الحق ، هل على المرأة من غسل ٍ إذا هي احتلمت ؟ ولم يمنع الحياء الرسول صلي الله عليه وسلم من أن يجيبها بقوله « نعم إذا رأت الماء » فاتقوا الله أيها المسلمون ، وتمسكوا بوصايا دينكم ، وتأسوا بهدي نبيكم .