الاستعداد للدار الآخرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستعداد للدار الآخرة

عباد الله: اتقوا الله، ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾. واعلموا أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، ووعدنا على تحقيق ذلك بفسيح الجنان وعظيم الرضوان، كما قال في محكم القرآن: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾  وقال سبحانه: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾. وأما من عصى ولم يقبل الهدى، بل طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.

عباد الله: ما أقرب الحياة من الممات؛ فليس بينكم وبين ذلك إلا أن يقال: فلان مات، فإن الدنيا موصولة بالآخرة، فمن حضره أجله رحل، وقدم على ما قدَّم من العمل، وأنتم في هذه الدنيا ممهلون إلى أجل، ومستخلفون لتبلون أيكم أحسن عملاً، فإذا استنفدتم الأنفاس، واستكملتم الأرزاق، وبلغتم الآجال، وأوشكتم على انقطاع الأعمال، نزل بكم الموت، وانقطع منكم النفس والصوت ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فحينئذ تنقلون من القصور إلى القبور، وتبقون في دار البرزخ إلى يوم النشور، إما في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، بحسب الجواب على السؤال، حيث يتولى عنكم المشيعون، حتى إنكم لتسمعون منهم قرع النعال، فأعادوا للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً.

عباد الله: تذكروا هول المطلع، وتفكروا في أمر المنقلب، فتزودوا لذلك بصالح العمل، والتوبة إلى الله من التفريط والزلل، ما دمتم في فسحة من الأجل، ولا تكتموا الله صغيرا ولا كبيرا ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾. وستشهد الأرض بقدرة باريها، بما عمل كل امرئ في الدنيا عليها؛ تقول: عمل عليَّ كذا وكذا ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ . وستشهد على أعداء الله الجلود والأسماع والأبصار يوم يحشرون إلى النار ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

فتذكر أيها الظالم يوما تنطق فيه الشهود منك عليك، وتفر من أقرب الناس إليك، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ ولا يكفي الظالم أن يبتعد عن ذويه بالفرار، بل يود لو يفتدي بهم في النار ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ﴾.

فما أعظم الهول! وما أشد الكرب! ﴿وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾. وكل يومئذ آخذ كتابه، فآخذ كتباه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾. ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً﴾.

ويقول حين يأخذ كتابه بشماله: ﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ﴾.

عباد الله: والهول العظيم، والكرب الشديد، حين يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، ويؤمر الناس أخيارهم وأشرارهم بالمرور عليه؛ فناج مخدوش، وناج مسلم، ومكردس في نار جهنم، ودعوة الرسل: اللهم سلِّم سلِّم، وذلك تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ﴾ ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾. كان أبو ميسرة رحمه الله إذا آوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فيقول: أخبرنا الله أنا واردوها - يعني النار - ولم نخبر أننا صادرون عنها. وقالعبد الله بن المبارك عن الحسن البصري رحمهما الله: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تزحزحنا عن النار، وتدخلنا الجنة مع الأبرار، يا رحيم يا كريم يا غفار.

الخطبة الثانية :

فاتقوا الله عباد الله: فإن تقوى الله منجاة من النار، وسبب للفوز بالجنة دار الأبرار، ومن لم يتق فهو الشقي الذي يصلى النار وبئس القرار؛ ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لاَ يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾. فما أعظم الأهوال! وما أشد النكال! ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.

عباد الله: إنه والله الجد لا اللعب، والصدق لا الكذب، وما هو إلا الموت أسمع داعيه، فأعجل حاديه، فأكثروا ذكر الموت هادم اللذات، وخذوا من مصارع ذويكم ومن حولكم أبلغ العظات، فقد رأيتم من جمع المال وحذر الإقلال، وأمن العواقب لطول الأمل واستبعاد الأجل، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه؟ وكم رأيتم ممن يؤملون بعيدا، ويبنون مشيداً، ويجمعون كثيراً، فأُخِذوا على غرة، وأزعجوا بعد الطمأنينة، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين، وهم لا في حسنة يزيدون، ولا من سيئة ينقصون.

عباد الله: أكثروا ذكر الموت، فإن ذكره يرقق القلوب، ويبعث على خشية علام الغيوب، ويُزهِّد في الدنيا، ويُنشِّط على العمل الصالح للأخرى، وإذا ذكرتموه في ضيق عيش وسعه عليكم، فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى زهدكم فيه فجدتم به فأثبتم.

عباد الله: خذوا من ذلك عبرة، فإن العاقل من انتفع بالموعظة وأخذ حِذْرَه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، فإن الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والأماني.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.