الثلاثة الذين خُلِّفوا

بسم الله الرحمن الرحيم

الثلاثة الذين خُلِّفوا

عباد الله: إن في الكتب لخبرا، وإن في السير لعبرا، قصةٌ من قصص المصطفى صلى الله عليه وسلم ، موقف صدق من مواقف الصحب البررة. قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين. قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات.. مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم مثال المتانة، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم. آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. كان الإمام أحمد رحمه الله لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات، وحديث كعب بن مالك في تفصيل أخبارها.

عباد الله: استنفرَ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام. إنها دولة الروم حين أحسَّت بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاريها، فُتِحت مكة فأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، فتحركت الروم بعسكرها وفكرها ودسائسها.

استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الأصحاب، فكان التهيؤ في أيامٍ قائظةٍ، وظروفٍ قاسيةٍ.. في جهدٍ مضنٍ، ونفقاتٍ باهظةٍ. إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.

وَصْفُها في كتاب الله استغرق آياتٍ طوالاً.. في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين. يجيء المعذرون ليؤذن لهم، ويتولَّى البكاؤون بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. واستمعوا إلى قصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد الثلاثة، رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين.

خرج (خ م) في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبُّوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ.. فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصْعَرُ - أي أميل وأرغب - فتجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقضِ شيئاً.. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتي فعلت».

عباد الله: ويأخذ الندم من كعب مأخذه، وتبلغ المحاسبة مبلغها، فتراه يقول: «فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى في الضعفاء». ويستمرُّ رضي الله عنه في سرد القصة فقول: «... فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي - أي شدة الحزن - فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلَّ قادماً راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبداً فأجمعت صدقه».

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه المخلفون بأعذارهم فقبل منهم، ووكل سرائرهم إلى الله. قال كعبٌ: «حتى جئت فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعالَ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً - أي اشتريت مركوباً؟ -قال: قلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ليوشكنَّ الله يُسخطك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عزَّ وجلَّ. والله ما كان لي من عذرٍ. والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك».

ثم جاء إلى كعب رجالٌ من بني قومه يراودونه الاعتذار كما اعتذر المخلفون، قال كعبٌ: فلا زالوا بي حتى هممت أن أرجع فأُكذِّب نفسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمت بخبر الرجلين الآخرين: مرارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أمية الواقفي، وهما رجلان صالحان من أهل بدرٍ فيهما أسوةٌ، قال كعب: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا... فاجتنبَنا الناسُ... حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد..».

وطالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء وضاقت المسالك حتى قصد ابن عمه أبا قتادة في حائطٍ له متسوِّراً عليه الحائط فناشده مكرراً المناشدة: هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكان الجواب: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب، ويشتد البلاء فإذا بنبطي من نبط الشام يسأل أهل السوق بالمدينة: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال كعب: «فطفق الناس يشيرون إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان... فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء فتييمت بها التنور فسجرتها».

عباد الله: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء، ويترصدون المداخل. وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّت، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فيمَّم بها التنور وسجرها.

بارك الله .........

الخطبة الثانية :

الحمد لله: عباد الله: وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: «فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت...» تنزل التوبة وتأتي البشرى، بشرى حسن العاقبة، بشرى العودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الخِلَعُ والجوائز.

يقول كعب: «فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة». فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك ، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ».

عباد الله: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خرجوا من مدرسة النبوة. صُدقٌ في الحديث، وصُدقٌ في الموقف، صُبْرٌ عند اللقاء، واعترافٌ بالخطيئة، وقبولٌ في حال الرضا والغضب، من غير تنميق عباراتٍ؛ لأجل تلفيق اعتذارات.

ولم تنته قصة كعب فتقف عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول. لقد جلس كعب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله؛ إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فأمسك سهمه الذي بخيبر. وقال: يا رسول الله؛ إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث أحداً إلا صدقاً ما بقيت. فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، والله ما أنعم الله عليّ نعمة قطُّ بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد. قال الله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ﴾.

ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، توبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.